كانت الشمس تتسلل نحو الغروب عندما دخلت أحد أحياء القاهرة الشعبية، حيث تملأ الأزقة همسات من القلق والتوتر، وملامح الناس تعكس معاناة كبيرة تختصرها عبارة واحدة، “شقق الإسكان أصبحت حلمًا بعيدًا”.

اقرأ كمان: نائب رئيس غرفة القاهرة التجارية يوضح مستقبل أسعار السلع بعد خفض الفائدة
كان هدفي هو الاقتراب من ظاهرة سماسرة التقديم التي باتت تؤرق الحكومة والمواطنين على حد سواء، ظاهرة تتغلغل في حياة البسطاء، تستغل حاجتهم إلى السكن الآمن، وتتركهم في دوامة من الخداع والوعود الكاذبة.
أول لقاء في قلب الحي مع سيدة تنتظر الأمل
أم سارة، امرأة في أواخر الأربعين، جلست أمام باب منزلها الصغير، تروي لي قصتها بصوت مليء بالحزن والإحباط: “دفعت 4000 جنيه لأحدهم قال لي إنه سيساعدني في تقديم طلب حجز شقة، كنت أعتقد أنه يدعمني، لكن بعد شهور اكتشفت أن طلبي لم يُسجل حتى!”
من نفس التصنيف: أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 24 مايو 2025: طن عز بـ 40094 جنيهًا
بين كلماتها، شعرت بثقل الظلم الذي تحملته، وزادني إصرارًا على كشف أبعاد هذه الظاهرة التي لا يراها الكثيرون.
الطريق إلى مكاتب السماسرة
توجهت نحو السوق القريب، حيث تنتشر بعض المكاتب الصغيرة التي تروج خدمات التقديم مقابل مبالغ مالية، مدخل أحد هذه المكاتب لم يكن ملفتًا، لكن ما بداخله كان حكاية أخرى.
داخل المكتب، تحدثت مع رجل في الأربعين من عمره، يدعي أنه “وسيط مع جهات الإسكان”، لكنه رفض الكشف عن اسمه، وقال بحذر: “الأمور ليست سهلة، كثيرون يريدون السكن، وأنا أساعدهم مقابل مبلغ رمزي”.
لكن عندما استفسرت عن طريقة العمل، بدا مترددًا، ثم أقر بأن الأمور “غير مضمونة”، وأنه مجرد وسيط يعيد تقديم الطلبات التي يمكن لأي مواطن تقديمها بنفسه عبر موقع صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري التابع لوزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية.
في انتظار تسجيل الطلب.. معاناة بلا نهاية
قابلت عادل، موظف حكومي في الثلاثين من عمره، كان ينتظر دوره عند أحد مراكز خدمة المواطنين التي خصصتها الدولة لمساعدة غير القادرين على التسجيل الإلكتروني.
روى لي كيف تعرض لمحاولات من سماسرة، عرضوا عليه خدمات مقابل أموال، لكنه قرر الاعتماد على نفسه، رغم صعوبة الإجراءات في البداية: “لم أكن أعرف كيف أبدأ، لكن بعد مساعدات من الآخرين ومتابعة أخبار الإسكان وزيارة مقر الصندوق، عرفت كل شيء، وتمكنت من التسجيل مجانًا”.
على خط المواجهة.. مسؤول في وزارة الإسكان يوضح
تواصلت مع مسؤول في وزارة الإسكان، طلب عدم ذكر اسمه، أكد لي أن الوزارة تعمل جاهدًا لضبط هؤلاء “النصابين” الذين يستغلون حاجة الناس، خاصة البسطاء، مردفًا “كل إجراءات التقديم مجانية ومعلنة عبر المنصات الرسمية، والسماسرة يستغلون نقص الوعي لدى البعض”.
وأضاف: “نطلق حملات توعية بشكل دوري، ونسعى لتسهيل الإجراءات، لكن التعاون من المواطنين مهم أيضًا”.
خطوات للحل.. بين كلام المواطن والحكومة
بينما يمضي المواطنون في معاناتهم، تحاول الدولة بناء جدار من الحماية لهم، عبر التوعية وتسهيل الإجراءات، لكن الطريق ما زال طويلاً.
لذلك، أصبح من الضروري تعزيز حملات الإعلام، وتبسيط المنصات الإلكترونية، وتفعيل دور مراكز الدعم، جنبًا إلى جنب مع تشديد الرقابة على من يستغلون حاجة الناس.
صوت المواطن المسلوب
عندما غادرت الحي، لم تغادرني صورة أم سارة وعادل، والعديد ممن يعيشون بين ظلال الأمل واليأس.
ظاهرة سماسرة التقديم ليست مجرد أرقام أو تقارير، بل هي وجوه وأرواح تبحث عن بيت يؤويها، والرسالة هنا واضحة، “دعم المواطن الحقيقي لا يكون إلا بشفافية وحماية، وبعيدًا عن استغلال الفقراء”.