ليست جميع المدن متشابهة، فبعضها يمرّ بجانبك دون أن يترك أثرًا، وبعضها يغريك بمظاهر زائفة، بينما هناك مدن تأسر قلبك وتعيدك إلى نفسك بطريقة مختلفة، ومن بين هذه المدن، تظل القاهرة استثناءً، فهي ليست مجرد مكان تُروى قصصه، بل تُعاش بعمق، تُفهم بعواطف القلب، وفي هذا السياق، تضع المخرجة اللبنانية فرح الهاشم عدستها لتقدم مشروعها الوثائقي: «هرتلة في القاهرة».

مقال له علاقة: حريق بسيط في مدرسة بنات بالشيخ زايد والإدارة تؤكد سلامة الطلاب
هرتلة في القاهرة
بإعلان ترويجي قصير، استطاعت الهاشم أن تثير فضول جمهور القاهرة ومن لم يزرها بعد، لم يكن هدفها التسويق بقدر ما كانت تسعى لتقديم وعد، وعد برؤية القاهرة من الداخل، لا كما يراها العابرون، بل كما يشعر بها العاشقون، فالفيلم لا يتبع بنية تقليدية، بل يترك المشاهد يتنقل بين الأفكار وكأنها تتراقص في عقل شاعر، تهرتل كما تفعل المدينة.
وبحسب فرح، لا تحمل كلمة «هرتلة» المعنى المعتاد للكلام غير المنظم، بل تتحول إلى وسيلة تعبير عن الحب، ولغة غير مصفاة، وشكل من أشكال النجاة، فالهرتلة، كما تراها، ليست عبثًا بل نوع من المقاومة، وتقول لـ نيوز رووم: «الهرتلة بالنسبة لي ليست كلامًا عشوائيًا، بل طريقة مقاومة، هي تفكير بصوت عالٍ في مدينة لا تسمح لك بالتفكير بصمت، ومحاولة لتركيب المعنى من فوضى الحواس، وقد قررت توثيق هذا الصوت الداخلي الجمعي ومنحه شرعية سينمائية، كما أنني أتحدث في الفيلم عن الهرتلة العبقرية التي تناولها صلاح جاهين».
وفي هذا الوثائقي، لا تطرح الهاشم خطابًا مباشرًا أو تعليقًا إرشاديًا، بل تترك الصورة تتحدث، وتسمح للمدينة بأن تعبر عن نفسها بلغة خاصة، فالقاهرة ليست مجرد جغرافيا، بل كائن حي يتنفس ويغضب ويضحك ويبكي، فالعدسة ليست أداة لرصد الواقع، بل نافذة للتفاعل معه، كأنها تتحدث إلى حبيب، إلى مدينة أنهكتها لكنها لا تزال تحبها.
وتضيف: «الخط الفاصل بين التوثيق والخيال غير موجود في أفلامي، لأن الذاكرة بحد ذاتها نوع من الخيال، فأنا أؤمن بأن السينما لا تنقل الحقيقة، بل تصنعها، والذاكرة الشخصية ليست مجرد أرشيف، بل وسيلة لرؤية الواقع من منظور عاطفي، وهو أصدق في كثير من الأحيان من الوثيقة الباردة».
الهرتلة كمرآة للذات
من بيروت إلى باريس، ومن نيويورك إلى الكويت، عبرت الهاشم العديد من المدن، كل منها أضاف إلى رؤيتها شيئًا، لكن القاهرة، كما يبدو، كانت المدينة التي دفعتها لفتح دفترها الداخلي وقراءته أمام الجميع، وفي هذا الفيلم، لم تُخفِ نفسها خلف الكاميرا، بل ظهرت أمامها، لا كاستعراض ذاتي، بل كراوية لا تنفصل عن الحكاية، كمحبوبة لا يمكن فصلها عن قصيدة الحب التي تُقال.
وتوضح: «هو قرار فني وشعوري معًا، وأنا لا أفرق بين فرح الإنسانة وفرح المخرجة، ووجودي في الفيلم ليس لتسليط الضوء عليّ، بل لأقول: أنا أعيش هذه المدينة، وأتألم معها، وأكتبها من الداخل، والراوية ليست خصم السرد، بل دليله».
وفي لحظة شاعرية، تُجسّد الهاشم القاهرة بصوت الفنان الراحل حسين رياض، الذي يسألها بنبرته الأبوية: “مالك يا بنتي؟”، وكأن المدينة تواسيها، تطبطب على قلبها، وتمنحها لحظة نادرة من الاحتواء وسط صخب لا يتوقف.
وتقول: «كنت أسمعه بصوت الفنان الكبير حسين رياض، هو بيطبطب عليّ ويقول لي: مالك يا بنتي؟ بتفكري في إيه؟.. هذا الصوت يحمل حنان الزمن الأبيض والأسود، دفا الأبواب المفتوحة، ورائحة الياسمين في شوارع وسط البلد، فالقاهرة ليست مدينة قاسية كما يعتقد البعض، بل هي فقط تعبانة قليلاً وتحتاج إلى حضن».
الأبيض والأسود
يبدأ الفيلم بلقطات بالأبيض والأسود، ثم تنفجر الألوان في مرحلة لاحقة، وبالنسبة للمخرجة، يمنح الأبيض والأسود المدينة هالة شعرية، يُجمّل القبح ويمنح الزحام نغمة حنين، بينما الألوان تكشف ما لا يُرى وتفضح ما نخفيه عن أنفسنا من تناقضات ومشاعر متداخلة.
وتضيف: «فقدت بعضًا من غموضها، ورونقها، الأبيض والأسود كان يغلف المدينة بهالة شعرية، يجعل من الفقر قصة حب، ومن الزحام لحنًا، والألوان فضحت التفاصيل غير المثالية التي لا نريد رؤيتها أحيانًا».
مواضيع مشابهة: رئيس الوزراء يعلن عن استثمار سامسونج 700 مليون دولار في مصنع بني سويف
كما لا يسير الفيلم في خط مستقيم، بل يلتوي كأزقة وسط البلد، يتيه بين المشاهد والوجوه، حيث لا يبحث عن نهاية بل عن رائحة، أو تذكار، أو لحظة دفء عابرة في شارع مزدحم.
وتوضح: «علاقتي بالمدن ليست حنينًا بسيطًا ولا محاولة للسيطرة، بل هي علاقة أخذ ورد، المدن تحميني أحيانًا وتجرحني أحيانًا أخرى، وأنا دائمًا أعود لها، حتى لو كنت أعلم أن ما مضى لا يعود، لا أسعى للسيطرة على المدن، بل أطلب منها أن تفسح لي زاوية صغيرة أضع فيها حكايتي، عندما أمشي في شارع قديم، لا أحنّ، بل أحاول إكمال الجملة التي انقطعت منذ سنين».
الناس العاديون أبطال الصورة
بعيدًا عن الأسماء اللامعة، اختارت الهاشم وجوه الناس العاديين، أولئك الذين لا يمثلون، بل يعيشون، أولئك الذين تهرتل بهم الحياة كل يوم، إذ تقول: «أنا أبحث عن الحضور لا الأداء، أريد الشخص، لا الشخصية، فالارتجال عندي هو صدق اللحظة، والبساطة أحيانًا تُفجّر مشاعر أعقد من أي أداء مُدرّب».
وتختم فرح حديثها بقولها: «هرتلة في القاهرة، ليس مجرد فيلم، ولا حتى وثيقة، هو حضن دافئ لمدينة متعبة، وجملة غير مكتملة تُصرّ على أن تُقال، وهو محاولة لفهم الذات عبر فوضى الآخرين، واحتفاء نادر بما لا يمكن ترتيبه، فهو تجربة جعلتني أؤمن أن السينما ليست مجرد فن، بل بيت مؤقت للحنين، وأن الحنين نفسه شكل من أشكال المقاومة، وأن المدن، تمامًا مثل البشر، لا تُحب إلا من يعرف كيف يهرتل معها».