بينما يستعد الملايين من المسلمين حول العالم لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، يجدر بنا أن نتأمل ظاهرة مشابهة، وإن كانت تختلف في شكلها ومغزاها، وهي الحج في مصر القديمة، فلم يكن المصريون القدماء بعيدين عن مفهوم «الرحلة المقدسة» أو الزيارة الدينية لمواقع مقدسة، بل كانت هذه الرحلات جزءًا لا يتجزأ من حياتهم الروحية والاجتماعية.

مواضيع مشابهة: تكريم وكيل الرياضة وأديب سويسي في فعاليات الموسم السابع لمسابقة “العمل الأول”
ما هو «الحج» في مصر القديمة؟
لم يكن مفهوم الحج في مصر القديمة مطابقًا تمامًا لمفهوم الحج في الأديان السماوية التي تلتها، إذ لم تكن هناك رحلة موحدة إلزامية لجميع المصريين إلى موقع واحد، بل اتخذت «رحلات الحج» أشكالًا متنوعة إلى وجهات مختلفة، وكانت غالبًا مرتبطة بعبادة آلهة معينة أو ببعض الطقوس الجنائزية.
شوف كمان: محافظ بني سويف يجتمع بوفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان
أبرز وجهات الحج المصرية القديمة
كانت المعابد والمقابر الملكية ومواقع الدفن الرئيسية هي النقاط المحورية لهذه الرحلات المقدسة، ومن أبرز هذه الوجهات.
أبيدوس
تُعتبر أبيدوس، المعروفة باسم «أبجو» في مصر القديمة، واحدة من أهم المواقع الدينية والجنائزية، حيث كانت مركزًا لعبادة الإله أوزوريس، إله العالم السفلي والبعث، وكان الحج إلى أبيدوس يُعتبر مشاركة رمزية في رحلة أوزوريس إلى العالم الآخر، وكان يُعتقد أن هذه الزيارة تضمن للمصري القديم حياة أبدية بعد الموت، وكان الكثيرون يتمنون أن يُدفنوا أو يُنصب لهم لوحة تذكارية في أبيدوس.
طيبة
وهي الأقصر حاليًا، وكانت عاصمة مصر لفترات طويلة، وضمت مجموعة هائلة من المعابد والمواقع الدينية، مثل معبد الكرنك ومعبد الأقصر، وكانت هذه المعابد مراكز لعبادة آمون رع، الإله الأكبر للدولة، والآلهة الأخرى، وكانت المهرجانات الكبرى، مثل عيد الأوبت، تشهد رحلات جماعية للتماثيل الإلهية من معبد لآخر، يتبعها جموع من الناس في احتفالات مهيبة، مما يمكن اعتباره شكلًا من أشكال الحج العام.
هليوبوليس
وهي منطقة عين شمس والمطرية وعرب الحصن حاليًا في القاهرة، وكانت مركزًا رئيسيًا لعبادة رع، إله الشمس، وعلى الرغم من قلة بقاياها الأثرية اليوم، إلا أنها كانت مدينة ذات أهمية دينية قصوى، ومن المحتمل أنها استقطبت زوارًا لأداء الطقوس المتعلقة بعبادة الشمس.
المقابر الملكية في وادي الملوك والملكات
على الرغم من أنها كانت في الأساس مواقع للدفن، إلا أن زيارة هذه المقابر، وخاصة في فترات معينة، اكتسبت طابعًا شبه ديني، خاصة لأولئك الذين كانوا يسعون للحصول على بركة الملوك المتوفين أو لتقديم القرابين لهم.
أهداف ودوافع الرحلات المقدسة
كان البحث عن الخلود هو الهدف الأسمى للكثيرين، حيث سعى الكثيرون لضمان الخلود والبعث في العالم الآخر، وكانت زيارة أبيدوس خير مثال على ذلك، بالإضافة إلى التقرب إلى الآلهة، حيث كان الحج وسيلة للتقرب من الآلهة وطلب البركة والحماية وتلبية الرغبات، كما كان الوفاء بالنذور دافعًا رئيسيًا، حيث يقوم الأفراد برحلات دينية للوفاء بنذور قطعوها للآلهة مقابل تحقيق أمنية أو تجاوز محنة، كما كانت المشاركة في الأعياد والمهرجانات تستدعي تجمعًا واسعًا للمؤمنين من جميع أنحاء البلاد، وأيضًا كانت بعض الرحلات تهدف إلى التطهير الروحي والتكفير عن الذنوب.
وسائل النقل والتحضيرات
اعتمد المصريون القدماء بشكل كبير على نهر النيل كوسيلة رئيسية للنقل في رحلاتهم، حيث كانت القوارب الوسيلة الأسرع والأكثر أمانًا للتنقل بين المدن والمعابد، كما كانت هناك طرق برية تُستخدم، خاصة في الرحلات القصيرة أو للوصول إلى المواقع البعيدة عن النيل، وكانت التحضيرات تشمل إعداد المؤن والقرابين، وقد يرتدي الحجاج ملابس خاصة أو يحملون أدوات طقسية.
إرث الحج المصري القديم
ترك الحج في مصر القديمة بصمات واضحة في النقوش والبرديات والآثار التي وصلتنا، حيث تروي هذه المصادر قصص الأفراد الذين قاموا بهذه الرحلات، وتصف المشاعر الدينية التي انتابتهم، وتؤكد على الأهمية الكبيرة التي أولاها المصريون القدماء لحياتهم الروحية وعلاقتهم بالآلهة.
إن فهمنا لمفهوم “الحج” في مصر القديمة يضيف بعدًا عميقًا لتاريخ هذه الحضارة العظيمة، ويؤكد على أن فكرة الرحلة المقدسة كانت سمة إنسانية مشتركة عبر العصور، وإن اختلفت تفاصيلها ومقاصدها بين الثقافات والأديان.