منذ أكثر من خمسة عقود، بدأت إيران رحلتها مع الطاقة النووية بدعم من القوى الغربية، مدفوعة بطموحها في استخدام الطاقة لأغراض سلمية، إلا أن ما بدأ كمشروع علمي سرعان ما تحول إلى إحدى أخطر القضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط.

مواضيع مشابهة: خامنئي من مخبئه: إسرائيل بدأت الحرب ولن نسمح لهم بالنجاة
ومع كل مرحلة من تطور البرنامج النووي الإيراني، تتزايد الشكوك وتتعقد الحسابات، لتصل اليوم إلى مفترق طرق خطير بين التخصيب المرتفع، الانهيار الدبلوماسي، والتهديدات العسكرية المتبادلة، خاصة مع إسرائيل.
في هذا التقرير الصحفي الموسع، نغوص في أعماق الملف النووي الإيراني: تاريخه، أبعاده، التحديات التي واجهته، التغيرات الإقليمية والدولية، وصولًا إلى التطورات الأخيرة التي باتت تنذر بانفجار إقليمي أو صفقة كبرى تغير معالم المنطقة
أولاً: بدايات البرنامج النووي الإيراني
يعود تاريخ البرنامج النووي الإيراني إلى خمسينيات القرن العشرين، عندما وقّعت إيران والولايات المتحدة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي اتفاقية للتعاون النووي ضمن برنامج “الذرة من أجل السلام”، وبحلول السبعينيات، كانت إيران قد وضعت خطة طموحة لبناء 23 مفاعلًا نوويًا، بمساعدة شركات ألمانية وفرنسية وأمريكية.
مقال مقترح: اجتماع استثنائي لوكالة الطاقة الذرية يوم الاثنين بعد الهجوم الإسرائيلي
ومع قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وتدهور العلاقات مع الغرب، توقفت مشاريع التعاون النووي، لكن طهران لم تتخلَّ عن طموحاتها النووية، بل أعادت إحياء البرنامج في ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا بعد الحرب مع العراق التي أظهرت حاجة إيران لتقنيات استراتيجية.
ثانيًا: تصاعد الشكوك ومشاريع السرية
خلال التسعينيات، ظهرت تقارير استخباراتية غربية تشير إلى نشاطات إيرانية سرية مرتبطة بتخصيب اليورانيوم وتطوير أجهزة الطرد المركزي، وهي مؤشرات غالبًا ما ترتبط بصناعة الأسلحة النووية، في 2002، كشف المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، وهو معارض مقيم بالخارج، عن وجود منشأتين نوويتين سريتين في “نطنز” و”أراك”، ما فجر أزمة دولية.
وسرعان ما دخلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الخط، وبدأت في سلسلة من التحقيقات كشفت عن أنشطة لم تُبلّغ بها مسبقًا، مما دفع مجلس الأمن إلى إصدار سلسلة قرارات ضد إيران، تشمل فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية خانقة.
ثالثًا: الاتفاق النووي.. أمل مؤقت (2015)
بعد أكثر من عقد من المفاوضات والتوترات، ووسط إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وُقّع في يوليو 2015 “الاتفاق النووي الإيراني” (خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA) بين إيران ومجموعة 5+1.
بموجب الاتفاق، وافقت إيران على:
* خفض نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 3.67%
* تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي
* التخلص من 98% من مخزون اليورانيوم المخصب
* السماح للمفتشين الدوليين بالدخول إلى المواقع النووية.
في المقابل، تم رفع العقوبات الدولية تدريجيًا، مما أتاح لإيران العودة إلى الأسواق العالمية، خصوصًا في قطاع النفط، غير أن التفاؤل لم يدم طويلًا.
رابعًا: الانسحاب الأمريكي وعودة التصعيد
في مايو 2018، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران تحت عنوان “الضغط الأقصى”، ردت إيران بالتدرج في تقليص التزاماتها، فرفعت نسبة التخصيب إلى 20%، ثم 60%، ورفضت التفتيش في بعض المواقع.
بحلول 2022، كانت إيران قد وصلت إلى مرحلة يُعتقد أنها باتت قادرة فيها على إنتاج سلاح نووي في غضون أسابيع، إذا ما اتخذت القرار السياسي بذلك، في المقابل، عجزت إدارة بايدن آنذاك عن إعادة إحياء الاتفاق بسبب انقسام الكونجرس والظروف الإقليمية المعقدة.
خامسًا: البعد الإسرائيلي.. مواجهة من خلف الستار
تعتبر إسرائيل الملف النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا، ورغم أنها لم تُوقّع يومًا على معاهدة حظر الانتشار النووي، إلا أنها ترفض قطعًا امتلاك إيران لأي قدرة نووية عسكرية.
منذ 2010، يُعتقد أن الموساد الإسرائيلي نفّذ عدة عمليات داخل إيران، أبرزها:
* اغتيال علماء نوويين (مثل محسن فخري زادة عام 2020)
* تنفيذ هجمات إلكترونية على منشآت نطنز
* تسريب وثائق من داخل الأرشيف النووي الإيراني.
في المقابل، عززت طهران من قدراتها الدفاعية، وطورت برنامجًا للصواريخ الباليستية، وتعاونت عسكريًا مع روسيا والصين.
سادسًا: طهران – تل أبيب.. مواجهة مباشرة (2024-2025)
في أبريل 2024، حدث ما لم يكن متوقعًا: أطلقت إيران لأول مرة هجمات صاروخية ومسيرات على إسرائيل من أراضيها، ردًا على قصف استهدف منشأة قريبة من أصفهان، ورغم أن القبة الحديدية اعترضت معظمها، إلا أن الخطوة اعتُبرت تصعيدًا استراتيجيًا
في الأيام التالية، ردت إسرائيل بهجمات جوية على مواقع في طهران وشيراز وكرمانشاه، واستهدفت منشآت يعتقد أنها على صلة بالبرنامج النووي.
بدأ الحديث عالميًا عن “مواجهة نووية غير مباشرة” بين قوتين إقليميتين، وسط تحذيرات من انجرار المنطقة إلى حرب شاملة، خصوصًا مع تزايد الدعم الروسي والصيني لإيران، وتورط إيران في دعم روسيا بطائرات مسيّرة في أوكرانيا.
سابعًا: المجتمع الدولي.. بين الضغط والدبلوماسية
رغم تصاعد التوتر، لم تتوقف المساعي الدولية عن إيجاد مخرج سياسي للأزمة، فقد زار مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، طهران في مارس 2025، في محاولة لاستعادة عمليات التفتيش، غير أن التقارير الأخيرة تؤكد أن إيران:
* تجاوزت الحد المسموح به من اليورانيوم المخصب بأكثر من 30 مرة
* طورت أجهزة طرد مركزي من الجيل التاسع
* رفضت الكشف عن مواقع سرية يُعتقد أنها تُستخدم في اختبارات القنابل النووية.
من جانب آخر، دعا الاتحاد الأوروبي إلى عقد “مؤتمر فيينا 2” لإنقاذ الاتفاق، إلا أن التباعد بين المواقف الأمريكية والإيرانية حال دون تحقيق اختراق.
ثامنًا: روسيا والصين.. ورقة الضغط الإيراني
استفادت إيران من التوتر بين الغرب وروسيا بسبب حرب أوكرانيا، ومن الصعود الاقتصادي للصين، لتوسيع نفوذها عبر تحالفات جديدة، فقد زودت روسيا بمسيّرات هجومية، في حين وقعت اتفاقيات اقتصادية مع بكين بمليارات الدولارات.
وهكذا، باتت طهران ترى نفسها جزءًا من محور عالمي جديد يضم روسيا، الصين، كوريا الشمالية، وربما دولًا أخرى، يوازن الضغوط الأمريكية والغربية، ويدعم مواقفها في الملف النووي.
تاسعًا: السيناريوهات المحتملة
1. اتفاق جديد مشروط.
إذا ما رضخت إيران لعودة المفاوضات، قد يُبرم اتفاق جديد أكثر تشددًا، يُلزمها بتفكيك أجهزة التخصيب العالية ويشمل البرنامج الصاروخي، لكن سيكون الثمن هذه المرة أعلى: ضمانات أمنية، ورفع دائم للعقوبات
2. الاستمرار في الغموض النووي.
تُفضل إيران أحيانًا ما يسمى “بالغموض النووي” على الطريقة الإسرائيلية، أي امتلاك القدرة دون الإعلان عنها رسميًا، وهو سيناريو يسمح لها بالمناورة دون مواجهة دولية حتمية.
3. ضربة إسرائيلية استباقية.
في حال تأكد امتلاك إيران لسلاح نووي، قد تُقدم إسرائيل على شن ضربة عسكرية شاملة على منشآتها، بدعم أمريكي أو حتى منفردة، وهو سيناريو يحمل مخاطر اندلاع حرب إقليمية مفتوحة.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد قصفت القوات الإسرائيلية ليلة الجمعة منشأت نووية في منطقة أصفهان الإيرانية، تُستخدم في مرحلة “إعادة تحويل” اليورانيوم المخصب، وهي الخطوة التالية بعد التخصيب في مسار تصنيع الأسلحة النووية.
قائمة اغتيالات العلماء النووين الإيرانيين :
أكد جيش الاحتلال الإسرائيلي رسميًا، اليوم السبت، أنه في الدقائق الأولى من الهجوم الذي شنه أمس، قُتل 9 علماء نوويين كبار، من خلفاء العالم محسن فخري زاده «أبوالمشروع النووي الإيراني» الذي اغتالته إسرائيل قبل سنوات، بحسب ما نقلته القناة 12 العبرية.
ونشر جيش الاحتلال أسماء العلماء الإيرانيين، ووثائق من عملهم في المشروع النووي، حيث وصفت القناة 12 العلماء بأنهم ذوي معارف مهنية متنوعة وخبرة واسعة، وكثير منهم كانوا خلفاء فخري زاده، مستعرضة أسمائهم.
– فريدون عباسي، خبير في الهندسة النووية.
– محمد مهدي طهرانشي، خبير فيزياء.
– أكبر متالي زاده، أخصائي الهندسة الكيميائية.
– سعيد برجي، خبير هندسة المواد.
– أمير حسن فكي، خبير فيزياء.
– عبدالحميد منوشهر، خبير في الفيزياء النووية.
– منصور أصغري، خبير فيزياء.
– أحمد رضا دولفكري دارياني، خبير في الهندسة النووية.
– علي بوشاي قطريم، خبير ميكانيكا.
في الختام، يبقى الملف النووي الإيراني قضية محورية تحمل تأثيرات إقليمية ودولية عميقة، فبينما تسعى إيران إلى تطوير قدراتها النووية لأغراض مدنية ودفاعية، تثير هذه الخطوة مخاوف كبيرة حول احتمالية استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض عسكرية.
ومن هنا، تبرز أهمية الحوار الدبلوماسي والجهود الدولية لتحقيق توافق يضمن أمن المنطقة ويحد من التصعيد، إن تحقيق حل مستدام يتطلب توازنًا دقيقًا بين مصالح جميع الأطراف، مع الالتزام بالشفافية والضمانات اللازمة لمنع انتشار الأسلحة النووية، والحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم أجمع.