في قلب حي السويس، وسط رائحة القماش القديم وصوت ماكينة الخياطة العتيقة، يجلس الحاج يوسف، أقدم “رفا” في المدينة، يحوك بخيوطه قصصًا من الصبر والإتقان وحب المهنة، لا يُعرف بين جيرانه وزبائنه سوى بلقب “أبو باسم”، لكنه بالنسبة لكثيرين، هو حارس تراث مهدد بالاندثار.

شوف كمان: التنمية المحلية تراقب تقدم تنفيذ المشروع القومي لتطوير المجازر
تعود بدايات رحلة الحاج يوسف إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، حين اضطر للرحيل عن السويس مع أسرته بسبب الحرب، ليستقر مؤقتًا في مدينة بنها بمحافظة القليوبية، وهناك، وبين أزقة المدينة، تعلم مهنة “الرفا” على يد أحد أمهر الحرفيين، لم يكن يدري أن تلك الصنعة البسيطة ستصبح عماد حياته وأساس رزقه لأكثر من نصف قرن.
عندما يعود التراث إلى السويس
مع عودة السويس إلى أهلها في أوائل الثمانينات، عاد الحاج يوسف إليها حاملًا معه الصنعة والخبرة، ليبدأ العمل في شارع النمسا، أحد أشهر شوارع المدينة، وبعد سنوات قليلة، قرر أن يستقل بورشة خاصة به في حي السويس، ليبدأ فصلًا جديدًا من الكفاح والحفاظ على هذه الحرفة الأصيلة.
يقول الحاج يوسف بفخر: “ورشتنا صغيرة، لكن هي كل حياتي، وفيها علمت أولادي الأربعة الصنعة، ما ينفعش حد في بيتي ينام وهو مش متعلم إزاي يمسك الإبرة، حتى ابني اللي بقى مهندس، لازم يكون بيعرف يشتغل على الماكينة”
الحرفية في زمن السرعة
وربما تكون قصة ابنه “عمر” من أصدق ما يعكس فكر الحاج يوسف، فقد تعلم المهنة على يده، ثم استطاع أن يفتح ورشته الخاصة ويبدأ مشواره المستقل، يقول الأب بفخر: “الحمد لله، دلوقتي عمر تمام وفتح محل لوحده”
أما عن أدواته، فلا يحتاج الحاج يوسف لماكينات حديثة أو تقنيات متطورة، فهو لا يزال يحتفظ بعدة ماكينات من طراز “سنجر” القديم، يعمل بها يوميًا بنفسه، وكأن الزمن توقف عند لحظة إتقان، ويضيف مبتسمًا: “رأس مالي الحقيقي هو الخبرة، والقصاقيص، بقايا القماش اللي بسحب منها الخيوط، وأرقّع بيها اللبس كأنه جديد”
شوف كمان: وزير الطيران يجتمع بوفد البنك الأوروبي للإعمار لتعزيز التعاون في استثمارات المطارات
تراث حي لا يموت
ورغم تغير الزمن وتراجع الإقبال على الحرف اليدوية، يواصل الحاج يوسف عمله بنفس الشغف، مؤمنًا بأن الحرفة التي أحيت بيوتًا، لا يجب أن تموت، فهو لا يراها مجرد صنعة، بل رسالة وأمانة يجب أن تُنقل من جيل إلى جيل.
في زمن أصبح فيه كل شيء سريعًا وسهل التلف، تبقى يد الحاج يوسف مثالًا نادرًا على الصبر والدقة والوفاء للمهنة، رفا بسيط، لكنه نسيج من التاريخ، وحكاية تستحق أن تُروى.