الدين لله ومصر للجميع.. حكاية مسجد دير سانت كاترين مع صور

فى أرض الوادى المقدس، حيث وقف النبى موسى يخاطب الله فوق جبل سيناء، يبرز مشهد فريد من نوعه، مسجد صغير يقع داخل أحد أقدم الأديرة المسيحية على مستوى العالم، هذا المسجد داخل أسوار دير سانت كاترين يروي قصة تعايش وسلام تمتد عبر آلاف السنين في أرض مصر.

الدين لله ومصر للجميع.. حكاية مسجد دير سانت كاترين مع صور
الدين لله ومصر للجميع.. حكاية مسجد دير سانت كاترين مع صور

هذا المسجد يمثل شاهدًا حيًّا على تجذُّر قيم التسامح والتنوع الدينى في النسيج المصري، الذي احتضن عبر العصور مختلف الثقافات والعقائد تحت سقف واحد، دون إقصاء أو صراع.

أقدم دير.. وأغرب مَعلم

دير سانت كاترين، الذي يقع في عمق جنوب سيناء، أسفل جبل موسى، يُعتبر من أقدم الأديرة المسيحية العامرة في العالم، ويعود تأسيسه للقرن السادس الميلادي في عهد الإمبراطور البيزنطى جستنيان، الذي أمر ببنائه لحماية رهبان المنطقة وتكريمًا للقديسة كاترين الإسكندرانية، التي استشهدت دفاعًا عن إيمانها في أوائل القرن الرابع.

داخل أسوار الدير الضخمة، التي صمدت أمام الزمان والحروب والزلازل، يوجد مسجد صغير من الحجارة، يتسم ببساطته لكنه غني بالمعنى والدلالة، فلا توجد مئذنة أو زخارف إسلامية متكلفة، بل قاعة صغيرة تحتوي على محراب باتجاه القبلة وسقف خشبي، وواجهة مبنية على الطراز الفاطمى.

لماذا بُني مسجد داخل دير مسيحى؟

السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا هو: لماذا يوجد مسجد داخل دير مسيحى منعزل في قلب الجبال؟ ولإجابة هذا السؤال، أوضح عدد من الباحثين المتخصصين في التاريخ المسيحي والإسلامي في مصر أن المسجد قد شُيد في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، في العصر الفاطمي، أي بعد نحو 400 عام من تأسيس الدير.

يقول الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار المعروف ووزير الآثار الأسبق، في أحد مقالاته:

“وجود المسجد داخل دير سانت كاترين ليس تهديدًا أو تناقضًا، بل هو تجسيد حي لفكرة التعايش السلمي، وقد شُيّد المسجد احترامًا لاحتياجات الحراس والبدو المسلمين الذين عاشوا بجوار الدير وخدموه.”.

ويضيف حواس، أن هذا المسجد يُعتبر واحدًا من أندر النماذج المعمارية التي تجمع بين الأديان في مكان واحد، ويعتبره “رمزًا لتسامح فريد يميز الثقافة المصرية منذ القدم”.

وثيقة النبى محمد ورعاية الرهبان

يربط بعض المؤرخين وجود المسجد داخل الدير بمضمون وثيقة تاريخية تُعرف باسم “العهدة المحمدية”، وهي وثيقة منسوبة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يُقال إنه منحها لرهبان دير سانت كاترين، تؤكد حمايتهم وعدم التعرض لهم أو لديرهم، وتضمن حرية العقيدة والعبادة.

ورغم الجدل العلمي حول صحة الوثيقة من حيث السند التاريخي، فإن مضمونها ظل حاضرًا في الوجدان المصري والإسلامي لقرون طويلة، وتم تناقلها عبر المخطوطات القديمة، وتُعرض منها نسخ داخل مكتبة الدير حتى اليوم.

المسجد لا يعمل.. لكنه باقٍ كشاهد

على الرغم من أن المسجد الموجود داخل الدير لا يُستخدم اليوم للصلاة اليومية أو الشعائر الإسلامية، فإنه لا يزال قائمًا ومحافظًا على ملامحه، ويُعتبر معلمًا أثريًا هامًا ضمن مكونات موقع سانت كاترين المسجل على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

وقد تم ترميم المسجد أكثر من مرة في العقود الماضية ضمن جهود الحفاظ على تراث الدير المعماري والديني، ويزوره آلاف السياح سنويًا من مختلف دول العالم، الذين يندهشون من رؤية رمز للتسامح بهذا الشكل المادي والحي.

كلمة من قلب الصحراء.. مصر بلد التعدد لا التصادم

ما يلفت الانتباه في قصة المسجد داخل دير سانت كاترين ليس فقط موقعه الجغرافي، بل الرسالة الرمزية التي يحملها، فهى رسالة تؤكد أن مصر، منذ فجر التاريخ، أرض تعايش بين الأديان، لا صراع بين العقائد.

في هذا المكان المقدس، صلى الرهبان، وخدم البدو، ووقف الزائرون على اختلاف جنسياتهم وعقائدهم، يحملون احترامًا لهذا التراث المتفرد.