في مقال نشره عام 1975، توقع الكاتب ريتشارد توماس حدوث تغيير في تصميم البيوت الأمريكية، حيث لاحظ أن الشرفات انتقلت من الواجهة الأمامية إلى الفناء الخلفي، ولم يربط هذا التغيير بالعمارة فحسب، بل اعتبره أيضًا انعكاسًا لتحول أعمق في بنية المجتمع الأمريكي.

اقرأ كمان: طهران تشهد غضبًا عارمًا بعد الضربة الإسرائيلية مع دعوات للانتقام وتهديدات برد ساحق
يشير أستاذ النظرية السياسية بجامعة نوتردام، باتريك دينين، إلى أن هذا التغير الرمزي يعكس الانتقال من مجتمع يقدّر التواصل والانفتاح، كما تمثله الشرفة الأمامية، إلى مجتمع يفضل الخصوصية والانعزال، كما يمثله الفناء الخلفي، ويضيف أن انحسار التفاعل بين الجيران أدى إلى ضعف الروابط المجتمعية، وتآكل مفهوم المجتمع المدني، وبالتالي غياب الإحساس الجماعي بالحكم الذاتي.
يُعتبر دينين، مؤلف كتابي “لماذا فشلت الليبرالية” و”تغيير النظام”، من أبرز المنظّرين لما يُعرف بـ”ما بعد الليبرالية”، وهي رؤية فكرية تدعو إلى تجاوز المبادئ الليبرالية التقليدية نحو نظام يعيد الاعتبار للتقاليد المجتمعية والدينية، ويعزز القيم المحافظة والهوية الوطنية.
وقد أثر دينين في تفكير السيناتور جي دي فانس، نائب الرئيس الأمريكي الحالي، الذي أشاد علنًا بكتاب “تغيير النظام” خلال ندوة عامة في عام 2023.
في مقالاته وكتبه، ينتقد دينين الليبرالية باعتبارها تجربة أدت إلى تفكيك الروابط المجتمعية، وتقويض التقاليد، وتجريد الأفراد من روابطهم العضوية بالمجتمع والدين، ويدعو إلى بناء “نظام ما بعد ليبرالي” يستند إلى تعاليم المسيحية والحكمة القديمة.
وفي السياق ذاته، يكتب سهراب احمري، المنظّر المحافظ، في مقاله الشهير “Why They Hate Us”، عن ضرورة الانتقال من الليبرالية إلى نظام جديد يعيد الاعتبار للفضيلة والصالح العام، منتقدًا التركيز المفرط على الحرية الفردية والأسواق الحرة.
اليمين الجديد: التماهي مع الترامبية أم تجاوزها؟
برز فانس كأحد أبرز قادة تيار “اليمين الجديد”، الذي يتموضع أيديولوجيًا خارج الإطار التقليدي للمحافظة الأمريكية، ويشكل انفصالًا واضحًا عن المدرسة النيوليبرالية التي هيمنت على الحزب الجمهوري لعقود، ويصف البعض هذا التيار بأنه “الواجهة الفكرية للترامبية”.
يعادي اليمين الجديد السياسات الليبرالية بشقيها الكلاسيكي والتقدمي، ويرى فيها سببًا في تفكك المجتمع، وتدهور الطبقة العاملة، وتآكل الهوية الوطنية، ويطالب بتدخل الدولة في تعزيز القيم التقليدية، وحماية الأسرة، ودعم التصنيع المحلي، وفرض تعريفات جمركية، في انسجام مع أجندة ترامب الاقتصادية.
وخلال كلمته أمام المؤتمر الجمهوري في يوليو 2024، هاجم فانس اتفاقيات التجارة الحرة، وحرب العراق، مستشهدًا بدور جو بايدن في دعم قرارات كارثية أضرت بالطبقة العاملة الأمريكية، كما تحدث عن تجربته في العراق، منتقدًا السياسة الخارجية التدخلية التي تبناها المحافظون الجدد منذ عهد ريغان وحتى بوش الابن.
وقد أعاد ترامب إحياء هذا التيار من خلال شعاره “أمريكا أولًا”، ورفضه للحروب الخارجية، وتركيزه على حماية الاقتصاد الأمريكي من العولمة، وهو ما مثّل قطيعة مع تراث الحزب الجمهوري التقليدي.
منظّرون وسياسيون في طليعة التحوّل
يضم التيار أيضًا شخصيات مثل فيفيك راماسوامي، رجل الأعمال والمرشح الرئاسي السابق، الذي تحدث عن مشروع فكري متطور لليمين الجديد، يرفض “الإجماع النيوليبرالي” حول التجارة الحرة، والهجرة، والدعم الخارجي للديمقراطيات، ويؤيد “الحمائية الوطنية”.
يدعو فانس إلى “برنامج لاجتثاث البيروقراطية” في مؤسسات الدولة الأمريكية، يشبه برنامج “اجتثاث البعث” في العراق بعد 2003، ويؤمن بضرورة “الاستيلاء على مؤسسات اليسار وتحويلها ضده”، على حد تعبيره.
ويتردد أن فانس قدّم لترامب نصيحة صريحة عام 2021: “اطرد كل بيروقراطي وموظف مدني، واستبدلهم بشعبنا”
من نفس التصنيف: مقيم مصري يُقبض عليه بتهمة نشر إعلانات حج وهمية وإيواء مخالفين في مكة
من المحافظين إلى الشعبيين الجدد
ترى وسائل إعلام أمريكية أن هذا التحول يعكس ولادة تيار “الشعبيين الجدد”، الذين لا يرون في الشركات الكبرى حلفاء طبيعيين، بل نخبة تسعى لفرض قيم ليبرالية على الطبقة المتوسطة، ويحمّلونها مسؤولية تدهور أوضاع الأمريكيين العاملين بجد.
يدعو هؤلاء إلى تشكيل ما يشبه “حزب العمال الرأسمالي في أمريكا”، يجمع بين تدخل الدولة في الاقتصاد، والحفاظ على القيم التقليدية، ومواجهة الهيمنة الليبرالية على المؤسسات.
إيلون ماسك.. صوت فاعل في التحالف الجديد
ومن أبرز المنضمين للمشهد الجديد، إيلون ماسك، الذي منحه ترامب دورًا قياديًا في “وزارة الكفاءة الحكومية”، وهي لجنة غير رسمية معنية بإصلاح الأداء الإداري للحكومة، يُعرف ماسك بمواقفه التحررية، وانتقاده للمساعدات الخارجية، ورفضه لسياسات التدخل العسكري، ولكن خلال الأيام السابقة شهدت العلاقة بين ماسك وترامب حالة من التوتر والقلق الكبير.
تيار غير متجانس؟
رغم صعوده، لا يخلو اليمين الجديد من التناقضات، يقول تود بيلت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، إن هذا التيار مرتبط بشخص ترامب أكثر من كونه أيديولوجيا متماسكة، ويضيف: “بدونه، قد تتفكك اللحمة التي تجمعهم”
ويوافقه في الرأي مراسل نيويورك تايمز، كلاي رايزين، الذي يشبّه مستقبل التحالف الجديد بعد ترامب بمصير إمبراطورية الإسكندر الأكبر، قائلاً: “بمجرد غياب القائد، تبدأ التصدعات”
لكن إعلاميين مثل بيتر روف يرون أن التيار الجديد هو محاولة لبناء بنية أيديولوجية متينة لترامبية قابلة للفهم السياسي، مشبهًا ذلك “ببناء منزل ثم إضافة الهيكل الداعم لاحقًا”.
ما بعد الليبرالية: رفض جذري أم مشروع بديل؟
يرى منظّرو هذا التيار، مثل دينين وأحمري، أن مشروعهم يتجاوز مجرد نقد الليبرالية، بل يقوم على استعادة السلطة الأخلاقية للتقاليد، وتعزيز الدولة الوطنية، وتمكين الاقتصاد المنتج، وحماية المجتمع من التفكك.
ويؤكد دينين في “تغيير النظام” أن ما يدعو إليه هو “إطاحة سلمية ولكن جذرية بطبقة حاكمة ليبرالية فاسدة”، وإقامة نظام جديد يقدّم المصلحة العامة على الحياد الأيديولوجي، وينبع من وضوح أخلاقي لا من حسابات سياسية آنية.
ومع فوز ترامب بولاية ثانية، يجد هذا التيار نفسه أقرب من أي وقت مضى إلى تحويل أفكاره إلى سياسات، في وقت يرى فيه مراقبون أن مستقبل الحزب الجمهوري – وربما السياسة الأمريكية كلها – بات مرهونًا بهذا التحول العميق في بنية اليمين الأمريكي.