من قرية ساحلية هادئة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، إلى استراحة ملكية ورئاسية غامضة، ثم إلى أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر، تُعيد “رأس الحكمة” كتابة تاريخها بشكل مثير، فخلف رمالها الذهبية، يختبئ تاريخ يمتد لآلاف السنين، مليء بالأطلال الأثرية ومحطات بارزة في الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى كونها وجهة سياحية واستثمارية واعدة.

مقال مقترح: جدول مصروفات المدارس الحكومية لعام 2026 مع تفاصيل القسط الأول وإعفاءات الطلاب
“ليومي أكتي”: جذور رومانية عريقة
ظهرت “رأس الحكمة” كمدينة ساحلية مرفئية رومانية قديمة تُعرف باسم “ليومي أكتي”، ومعناها “القمة البيضاء”، ويُعتبر المؤرخ والجغرافي والفيلسوف اليوناني إسترابون (63 ق.م – 24 م) هو أول من حدد الموقع الجغرافي للمدينة في موسوعته الجغرافية الشهيرة “الجغرافيا في سبعة عشر كتابًا”، حيث أشار إلى أن المنطقة كانت ميناءً لتصدير الغلال والحبوب في زمن الإمبراطورية الرومانية، وخاصة القمح، بالإضافة إلى الزيتون والنبيذ، حيث كانت المعاصر تنتشر بشكل كثيف هناك.
يُشير إسترابون إلى أن المنطقة الممتدة إلى الشرق من “ليومي أكتي” لم تكن تنتج نبيذًا جيدًا، حيث كانت جرار النبيذ تحتوي على مياه بحر أكثر من النبيذ، وكان يُطلق على نبيذها اسم “النبيذ الليبي”، الذي كان أقرب إلى الجعة، وكان يُستهلك بكثرة من قبل سكان الإسكندرية في العصر الروماني، بينما كانت نبيذ منطقة “انتيفيرا” (مارينا العلمين حاليًا) هو الأسوأ.
مع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية خلال عهد قسطنطين الأول، أُقيمت الكنائس في جميع أنحاء الإمبراطورية، وخاصة في مصر التي احتضنت العائلة المقدسة، وشهدت “ليومي أكتي – رأس الحكمة” بناء العديد من الكنائس، واكتسب هذا الرأس البحري اسمه من تلك الكنائس، فعُرف بعد الفتح الإسلامي باسم “رأس الكنائس” أو “رأس كناليس”.
ممكن يعجبك: لماذا يجب التركيز على معبر الأفراد بدلاً من المساعدات؟
الملك فاروق يغير الاسم ويشيد استراحة ملكية
مع مرور الزمن، تحولت المدينة إلى ربوة مرتفعة تُشرف على الشواطئ الزرقاء الصافية للبحر المتوسط، وأصبحت الكنائس مجرد أطلال تعكس طابعها الديني، ولكن زيارة ملكية قام بها الملك فاروق الأول (1936-1952م) غيّرت واقع المدينة للأبد.
يروي كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق، تفاصيل المشهد في مذكراته “فاروق كما عرفته”، حيث نشر فاروق أمامه خريطة كبيرة للصحراء الغربية، وأشار إلى ربوة تشرف على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مرسى مطروح، قائلاً: “هذه ربوة لاحظت جمال موقعها الطبيعي وأنا أحلق بالطائرة فوق الصحراء الغربية، وقد قررت أن أبني عليها استراحة صغيرة لأستجم فيها من وقت لآخر”، وأضاف: “إن اسم ذلك المكان كان رأس الكنائس فغيّرته إلى رأس الحكمة”، ويستطرد ثابت في مذكراته أن المكان كان رائعاً ولكنه كان منعزلاً عن العمران.
“رأس الحكمة”: من الملكية إلى الرئاسة
لنجيب على تساؤل متى قام فاروق ببناء هذه الاستراحة الملكية، ومتى غيّر اسم المدينة، نجد أن القاموس الجغرافي للبلاد المصرية من عهد قدماء المصريين إلى سنة 1945م لمحمد بك رمزي يشير إلى أن “الكنائس” هي نجع واقع بشاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأقرب محطة له هي محطة أبي حجاج الواقعة على السكة الحديدية الموصلة من الإسكندرية إلى مرسى مطروح، وتقع هذه المحطة على بعد 238 كيلومتراً من مدينة الإسكندرية، وبين محطة أبي حجاج ورأس الكنائس يوجد طريق غير ممهد طوله 1 كيلومتر، وفي سنة 1941 صدر قرار بتسميتها رأس الحكمة.
بنى الملك فاروق استراحته الملكية بعد عام 1941م، عقب قراره بتغيير اسم المدينة من “رأس الكنائس” إلى “رأس الحكمة”، وأمام الاستراحة خصص شاطئًا محاطًا بالصخور على شكل جزيرة ليكون مصيفًا للعائلة الملكية، وأطلق عليه أهالي المنطقة اسم “حمام الأميرات”؛ لأن أميرات الأسرة المالكة كن يقمن بالاستحمام فيه.
ظلت هذه الاستراحة الملكية بعيدة عن الأعين حتى 23 يوليو 1952م، التي أزاحت الستار عنها، وخصصت مجلة المصور تقريرًا عن رأس الحكمة نُشر في سبتمبر عام 1952م، حيث أشارت المجلة إلى أنها عبارة عن فيلا أنيقة أقامها فاروق في “رأس الحكمة” على الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وأحاطها بـ”جنة” من أشجار الفستق والبندق واللوز والجوز، تمتد عبر مئات الأفدنة.
وحول الفيلا، كان هناك مبنى آخر خُصص لرجال الحاشية، وجراجات للسيارات الملكية التي كان يستقلها الملك وضيوفه، وقد وُجدت سيارتان كبيرتان، إحداهما تسير على الماء كما تسير على اليابسة، بينما كانت الأخرى صالحة لتسلق المرتفعات، وذكرت “المصور” في تقريرها أن الاستراحة كانت مزودة بمولد كهرباء وخزان مياه وبرج للحمام، وفيها غرفة خاصة للزهور.
تحولت استراحة رأس الحكمة إلى استراحة رئاسية يرتادها الرؤساء، وتم فيها استقبال الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، والزعيم الليبي معمر القذافي، وغيرهما من الضيوف، كما كانت من وجهات الرئيسين السادات ومبارك خلال فترة حكميهما.
بهذه الطريقة، يروي ماضي “رأس الحكمة” منذ أن كانت مدينة رومانية قديمة تضم عشرات الكنائس، بينما يرسم حجم الاستثمار الحالي شكل تلك المدينة الذكية في المستقبل.