حكاية السولار في مصر من عربية الجاز إلى معادلة صندوق النقد

من عربية الجاز إلى معادلة صندوق النقد: حكاية السولار في مصر

حكاية السولار في مصر من عربية الجاز إلى معادلة صندوق النقد
حكاية السولار في مصر من عربية الجاز إلى معادلة صندوق النقد

في البيوت المصرية، لم يكن السولار والجاز مجرد وقود يُستخدم في خزانات الميكروباصات أو ماكينات الري، بل كان السولار رمزًا لفكرة “الدعم الاجتماعي غير المباشر” التي اعتمد عليها ملايين المصريين لعقود طويلة.

من قرى الصعيد إلى حواري القاهرة، عُرفت عربات النقل القديمة باسم “عربيات الجاز”، وهي تسير على السولار الرخيص، بدخانها الكثيف وصوتها العالي، وكأنها تجسد العلاقة العميقة بين المصريين ووقودٍ أصبح اليوم جزءًا من معادلة اقتصادية أكثر تعقيدًا.

زمن السولار الرخيص

قبل أكثر من عقد، كان لتر السولار يُباع بأقل من جنيه، وكانت الحكومة تخصص مليارات الجنيهات سنويًا لدعمه ضمن منظومة الوقود المدعوم، هذا الدعم شمل كل شيء من الميكروباصات التي تنقل المواطنين يوميًا، إلى عربات النقل الثقيل التي تحمل الغذاء والبضائع، وحتى الفلاحين الذين يستخدمونه لتشغيل ماكينات الري والجرارات الزراعية.

لسنوات طويلة، ظل السولار عنصرًا أساسيًا في ضبط أسعار السوق، وضمان استمرار حياة ملايين المصريين بتكاليف معقولة، حتى أصبح يُنظر إليه كأداة للعدالة الاجتماعية غير المعلنة.

لحظة التحول إلى الإصلاح الاقتصادي

مع بداية تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2014، بدأت أسعار الوقود تتغير، وارتفعت تدريجيًا وفق خطة لرفع الدعم، وكان أكثر ما تتحاشاه الحكومات هو المساس بسعر السولار، خوفًا من ارتدادات اجتماعية واسعة.

ورغم تحرير أسعار البنزين بأنواعه تدريجيًا، ظل السولار محتفظًا بوضع خاص، إلى أن تم إدخاله ضمن آلية التسعير التلقائي لاحقًا، ولكن مع استثناءات وتجميد متكرر للأسعار، بما يعكس استمرار الدعم غير المباشر له.

السولار بـ15.5 جنيه

اليوم، يباع لتر السولار بـ15.5 جنيه، وهو نفس سعر بنزين 80 تقريبًا لأول مرة في تاريخ مصر، ومع ذلك، يرى الخبراء أن السعر الحالي لا يزال يتضمن دعمًا غير مباشر، لا سيما في ظل ارتفاع تكاليف الاستيراد العالمية، وتراجع الجنيه المصري.

يقول الباحث الاقتصادي محمود جمال سعيد، في تصريح خاص لنيوز رووم، رغم ما يقال عن تحرير أسعار الوقود، يبقى السولار أداة توازن اجتماعي واقتصادي لا يمكن العبث بها بسهولة، والسيناريوهات المقبلة تشير إلى تثبيته طويلًا، وربما تخفيضه الرمزي كرسالة طمأنة.

السولار في الوقت الحالي ليس مجرد سلعة، بل مفتاح لتحريك قطاعات حيوية، منها الزراعة والنقل والصناعة، وأي زيادة في سعره تنعكس فورًا على أسعار السلع الغذائية، وتكلفة النقل، وتضخم الأسواق.

بين السياسة والاقتصاد

لسنوات، تعاملت الحكومات المصرية مع السولار بوصفه “الخط الأحمر” في ملف الوقود، وعكس ما جرى مع بنزين 95، الذي شملته الزيادات بشكل متكرر، ظل السولار محصنًا نسبيًا، بفعل حساسيته العالية في حياة الطبقة المتوسطة والدنيا، وتأثيره على الأمن الغذائي والنقل الجماعي.

حتى الآن، لا تزال الحكومة تتجنب ربط سعر السولار الكامل بتغيرات السوق العالمية، وتُبقي على آلية التسعير التلقائي في إطار محسوب، مدفوع بحسابات السياسة قبل الاقتصاد.

من “عربية الجاز” إلى مركبات النقل الحديثة، مرّ السولار برحلة طويلة تعكس تحولات الدولة من عصر الدعم الكامل إلى منظومة تستهدف الكفاءة، ولكن تظل حذرة في مواجهة الواقع الاجتماعي.

السولار لم يعد مجرد وقود، بل مرآة دقيقة لوزن الدولة بين ضغط صندوق النقد، وتقلبات الأسواق، واحتياجات الشارع، وبينما تتغير السيارات والطرق والأسعار، يبقى السولار في قلب معادلة لا تُحل بسهولة.