أين ذهب المال في غزة؟.. الناس ينفقون نصف مدخراتهم على فتات الخبز

في غزة، لا يكفي أن يكون لديك رصيد في البنك، بل تحتاج أيضًا إلى طريقة لسحبه، وعندما تفعل ذلك، تدفع تقريبًا نصفه “عمولة” لتجار السيولة، لتكتشف أن ما تبقى يكفي فقط لشراء كسرة خبز.

في تقرير يعكس عمق الأزمة، تسلط صحيفة “إندبندنت” البريطانية الضوء على الوضع في غزة من خلال شهادات مباشرة، حيث يسير الجد عاصم بخطوات بطيئة نحو أحد تجار السيولة، يهمس لنفسه: “طلبت زوجتي نصف كيلو طماطم، شوية سكر، وكيلو طحين… في البنك عندي 100 دولار، بس مش عارف إذا حيكفوا بعد العمولة”

مقال مقترح: حماس تتهم نتنياهو بتعطيل جهود الهدنة وصفقة تبادل الأسرى

عندما سأل التاجر عن نسبة السحب، كانت المفاجأة: “53%”، صرخ عاصم مذهولًا: “يعني أحول لك 100 دولار وتديني 47؟”، لكن التاجر اكتفى بهز رأسه بالموافقة

المصارف أُغلقت.. والتجار حلوا مكانها

قبل الحرب، كانت سلطة النقد الفلسطينية تدير المصارف وتعمل كـ”بنك مركزي” فعلي، لكنها اختفت من المشهد مع اندلاع الحرب، حيث دمر القصف الإسرائيلي الفروع، وتوقفت الصرافات الآلية عن العمل، وانقطاع الكهرباء والإنترنت جعل البنوك مجرد خزائن مغلقة.

في تلك الأثناء، ظهرت فئة جديدة تُعرف بـ”تجار السيولة”، الذين يقومون بتحويلات بنكية يستلمونها من الزبائن إلكترونيًا مقابل دفع نقدي فوري، لكن بنصف القيمة تقريبًا.

من 100 دولار إلى 47 فقط.. والجوع يبتلع الباقي

عندما سحب الجد عاصم أمواله، حول 100 دولار واستلم 47 فقط، ثم مشى على الأقدام لتوفير أجرة المواصلات، اشترى نصف كيلو طماطم بـ80 شيكل (21 دولارًا)، و20 جرام سكر بـ7 دولارات، وكيلو طحين بـ10 دولارات، ليبقى معه أقل من 10 دولارات فقط.

علق عاصم قائلاً: “السرقة مش بس في الحرب، دي كمان في الصرافة، كأننا بنتعاقب على إننا عايشين”

خزائن بلا مفاتيح.. ومصارف تحت القصف

في غزة، هناك 56 فرع بنك و92 جهاز صراف آلي، جميعها أصبحت خارج الخدمة، وبحسب سلطة النقد، فإن إسرائيل تمنع إدخال الأموال الورقية إلى القطاع، مما أدى إلى انهيار السيولة وارتفاع غير مسبوق في عمولات السحب.

ورغم اعتراف سلطة النقد بوجود تجار يستغلون الأزمة، إلا أنها أقرت بعدم قدرتها على السيطرة أو محاسبة المخالفين.

اقتصاد موازٍ.. و”كاش” مسحوب بعناية

في خلفية المشهد، تقف خطة إسرائيلية محكمة، حيث اقترح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر سابقًا سحب ورقة الـ200 شيكل من غزة بدعوى أن “حماس” تكدّس منها كميات كبيرة، رغم رفض البنك المركزي الإسرائيلي للفكرة، بدأت الحكومة تنفيذها بطريقة غير مباشرة.

سمحت إسرائيل لبعض التجار بإدخال سلع ثانوية مثل السجائر والهواتف، بشرط دفع ثمنها نقدًا، ووفق غرفة تجارة غزة، تُسحب دفعات من 6 إلى 7 ملايين شيكل أسبوعيًا من السوق المحلي، مما يضرب السيولة النقدية ويغذي سوقًا سوداء موازية.

خطة تجويع ناعمة.. بثمن سياسي

يصف الدكتور نائل موسى، رئيس قسم الاقتصاد بجامعة النجاح، ما يحدث في غزة بـ”المجزرة المالية الصامتة”، ويؤكد أن سحب أكثر من نصف قيمة الودائع يفاقم التضخم والجوع.

ويقول: “هذه واحدة من أقذر أدوات الحرب، فـ’تجار الدم’ يستفيدون من انهيار البنية المالية ليحققوا أرباحًا ضخمة على حساب الفقراء”

موسى يؤكد أن هذه الخطة ليست عشوائية، بل هي عملية هندسة اقتصادية تقف خلفها شبكات منظمة، بهدف إفراغ جيوب الناس وتحويلهم إلى أسرى المساعدات.

الجوع بـ”التحويل البنكي”

النتيجة؟ أكثر من مجرد أزمة مالية، تقول دلال، وهي أم لثلاثة أطفال: “معايا ألف دولار؟ حلو، بس لو سحبتهم حيكونوا 500، يعني هاكل نص الأكل اللي محتاجاه”

ويضيف شادي: “دي سياسة تجويع مخطط لها.. عاوزينك تمد إيدك لمساعدات إنسانية مدعومة من أمريكا وإسرائيل، وبعدين يربطوك اقتصادياً، وبعدها سياسياً”

أما سعيد، فيلخص المأساة بكلمات موجعة: “الكاش راح، الأسعار ولعت، التجار بيسرقوا المساعدات، وإحنا بنجوع بالعافية”

مقال مقترح: استشهاد أكثر من 80 شخصاً في القصف الإسرائيلي على غزة

النهاية.. “كاش قليل = جوع كثير”

منذ بداية الحرب، كان في غزة حوالي 7 مليارات شيكل (حوالي ملياري دولار)، والسؤال الآن: أين اختفوا؟ الإجابة: تم سحبهم تدريجياً من السوق عبر صفقات استيراد نقدية لسلع غير ضرورية، تحت غطاء “التنسيق الخاص”، وبموافقة إسرائيلية

ويقول غسان عليان، منسق الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية: “الوضع الأمني في غزة لا يسمح بإدخال الأموال”، رغم حديثه المتكرر عن “الجهود الإنسانية”

ما يجري في غزة ليس أزمة نقدية عابرة، بل حرب مالية تمارس فيها إسرائيل “عقابًا جماعيًا ناعمًا”، تستكمل فيها آثار الحرب بالصواريخ عبر معركة أخرى، هدفها هذه المرة الجيوب والمعدة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *