“أبو العربي”.. صياد السويس الذي أصبح مصدر رزق بشباكه القديمة

في قلب مدينة السويس، وعلى مقربة من البحر الذي شهد قصص كفاحه، يجلس رجل بسيط يُدعى “أبو العربي”، رجل سبعيني ملامحه تشبه البحر: قاسية أحيانًا، حنونة غالبًا، ودايمًا صادقة
كان أبو العربي صيادًا معروفًا بين أهل السويس، يُبحر في كل صباح، ويعود في المساء محملًا برزقه، ولكن مع تقدم العمر وتراجع صحته، لم يعد بإمكانه خوض غمار البحر كما كان من قبل
تحوّل من البحر إلى الرصيف
حين أدرك أبو العربي أن جسده لم يعد يقوى على الصيد، لم يستسلم، ولم يمد يده لأحد، بل جلس في أحد أركان سوق السويس الشعبي، يعرض بضاعة قد تبدو بسيطة في نظر البعض، لكنها تحمل حكايات البحر ورائحة الموج: بقايا شباك صيد قديمة
“دي شباك خدت من عمري سنين، كل عقدة فيها قصة”، يقولها بابتسامة حزينة وهو يشير إلى إحدى القطع التي يعرضها، بعض الهواة يشترونها لتجربة الصيد في الأماكن الضحلة، وآخرون يستخدمونها في الحمّام الشعبي كفُرشة للجلوس، أو حتى كقطعة ديكور تراثية تُذكّر بزمن البحر الجميل
رزق على قدر القلب
يجلس أبو العربي طيلة النهار، من شروق الشمس حتى أذان المغرب، لا يملّ من النداء على بضاعته البسيطة، ولا يشعر بالإهانة وهو يبيعها، بل يفخر بأنه لا يزال يكدّ ويكسب قوته بعرق جبينه، يقول: “أنا مش محتاج صدقة، أنا عاوز رزقي بالحلال، ولو حتى من شباك قديمة”
الزبائن يحبونه، لا لكونه بائعًا فقط، بل لأنه راوي حكايات بحر، يشتري منه البعض لمجرد أن يستمعوا لحكاية من زمن الغوص والصيد، في زمنٍ كانت فيه القوارب تُدار بالشراع، لا بالمحركات، وكان الرجال يقيسون رزقهم بطول النفس وصبر البحر
شباك لها قيمة
الملفت أن كثيرًا من الناس يأتون خصيصًا إليه، ويبحثون عن الشباك القديمة التي لا تُستخدم الآن في الموانئ الحديثة، يقول أحد الزبائن: “أبو العربي عنده شباك قديمة خامتها نادرة، صعب تلاقيها دلوقتي، خصوصًا للهواة اللي بيحبوا يصطادوا على مهَل، أو الناس اللي بيزينوا بيها الكافيهات البحرية أو الشاليهات”
المكان أصبح ملتقى
المكان اللي بيقعد فيه أبو العربي أصبح كأنه ديوان صغير، يجتمع حوله الصيادون القدامى، والناس اللي تحب تسمع كلام من القلب، يحكي عن رحلاته في خليج السويس، وعن أيام “العاصفة”، وعن سمك الحريد، وعن كيف كان يلقّن ابنه – الذي هاجر منذ سنوات – أصول البحر والصبر على الرزق
كلمات أبو العربي تحمل دروسًا
“البحر زي الدنيا، لو استعجلته يغرقك، ولو صبرت عليه يديك أكتر مما تتمنى”، هكذا يختصر أبو العربي فلسفته في الحياة، وهو يعقد أحد أطراف الشبكة وكأنها جزء من روحه
هو مش مجرّد بائع على الرصيف، لكنه حكاية بحد ذاتها، نموذج لرجل رفض الاستسلام رغم ضيق الحال وتقدم السن، وقرر إنه يواجه الحياة بأبسط الإمكانيات، دون أن يفقد كرامته
أصعب الأيام لما البحر ينساك
سألناه: “إيه أصعب لحظة عدّت عليك؟”، فرد دون تفكير: “أول مرة صحيت الصبح وما قدرتش أنزل البحر.. حسيت إني نسيت اسمي، حسيت إن البحر نسي صوتي، بس قلت الحمد لله، يمكن رزقي بقى في البر”
دعم مجتمعي بسيط.. له أثر كبير
بعض الجمعيات المحلية بدأت تلتفت لحالة أبو العربي، وتحاول تدعمه بشكل غير مباشر، كأن يوفّروا له مكان مظلل لبيع بضاعته، أو حتى يشتروا منه كمية من الشباك ويعيدوا تدويرها في مشاريع تراثية
لكن الأجمل، أن المجتمع من حوله لا يزال يقدّر أمثاله، ويعرف أن “رزق الشرفاء لا يسقط بالتقادم”