المال والهوية: سر بقاء الكلاسيكو الفرنسي في صدارة الأحداث الرياضية

عندما يلتقي باريس سان جيرمان وأولمبيك مارسيليا، فإن الأمر يتجاوز كونه مجرد مباراة في الدوري الفرنسي، بل يتحول إلى حدث وطني يجذب أنظار الملايين داخل فرنسا وخارجها، لا صوت يعلو فوق صوت الكلاسيكو الفرنسي، المواجهة التي تتسم بالحدة ولا تعترف بالحسابات المسبقة، هنا تتداخل كرة القدم مع السياسة والاجتماع والاقتصاد، وهنا تشتعل الخصومة التاريخية بين عاصمة الأضواء والمال باريس ومدينة الجنوب الشعبية مارسيليا

إنها معركة لا تبدأ بصافرة الحكم ولا تنتهي عند صافرة النهاية، بل تمتد لعقود من الصراع بين فريق يرمز إلى القوة والنفوذ والثراء المدعوم باستثمارات قطرية هائلة، وآخر يمثل الكبرياء الشعبي والتاريخ الأوروبي كونه أول نادٍ فرنسي رفع كأس دوري أبطال أوروبا

وفي كل مرة يلتقي الفريقان، يشعر اللاعبون والجماهير أن النتيجة أكبر بكثير من مجرد ثلاث نقاط، إنها مباراة كرامة وهوية، حيث يسعى فريق العاصمة الفرنسية لتأكيد هيمنته الحديثة، بينما يقاتل مارسيليا لاستعادة أمجاده وإثبات أن الجنوب لا ينحني أمام نفوذ العاصمة، وما بين هذه وتلك، تظل المواجهة وقودًا للحماس والإثارة، وحدثًا يفرض نفسه على جدول كرة القدم العالمية تحت مسمى واحد “كلاسيكو فرنسا” أو كما يُعرف بـ لو كلاسيك

أسباب العداء بين الفريقين

تعود جذور العداء إلى السبعينيات والثمانينيات، حين برز أولمبيك مارسيليا كقوة كروية كبيرة في فرنسا، في وقت كان فيه باريس سان جيرمان ناديًا ناشئًا يسعى لبناء مكانته، لكن التوتر الحقيقي بدأ في التسعينيات عندما كان مارسيليا النادي الأكثر تتويجًا ونجاحًا أوروبياً بعد فوزه بدوري أبطال أوروبا عام 1993، وهو الإنجاز الذي لم يحققه أي نادٍ فرنسي آخر حتى الموسم الماضي حينما تُوج البي اس جي بلقبه الأوروبي الأول

منذ ذلك الحين، أصبح مارسيليا يمثل “فخر الجنوب” وواجهة الطبقة الكادحة والجماهير الشعبية، بينما بات باريس سان جيرمان رمزًا للرأسمالية والثراء، خصوصًا بعد استحواذ الاستثمارات القطرية على النادي عام 2011، هذا الفارق في الهوية الاجتماعية عمّق الفجوة، حيث ينظر جمهور مارسيليا إلى باريس على أنها تمثل السلطة والنخبة المركزية، بينما يرى أنصاره أنفسهم ممثلين للشارع الفرنسي الصاخب والمتنوع ثقافيًا

أيضًا، لعبت الصحافة دورًا في تغذية هذا الصراع، من خلال تسليط الضوء على المواجهات الساخنة داخل وخارج الملعب، واعتبار اللقاء بمثابة “معركة هوية” أكثر من كونه مجرد مباراة كرة قدم

أبرز اللاعبين الذين ارتدوا قمصان الفريقين

رغم شدة العداء بين الناديين، إلا أن بعض اللاعبين ارتدوا قميصيهما على مر التاريخ، وهو ما أثار دائمًا الجدل، ولعل أبرزهم:

جورج ويا.. أسطورة ليبيريا وأفضل لاعب في العالم عام 1995، لعب لباريس سان جيرمان بين 1992 و1995 قبل أن ينتقل إلى ميلان، لكنه ارتبط كثيرًا بذكريات قوية ضد أولمبيك مارسيليا

جابرييل هاينز.. المدافع الأرجنتيني لعب لباريس سان جيرمان في بداية الألفية، ثم عاد لاحقًا ليرتدي قميص مارسيليا ويحقق معه الدوري الفرنسي

كلود ماكيليلي.. النجم الفرنسي الشهير لعب في صفوف باريس، لكنه مثّل حلقة وصل غير مباشرة بمارسيليا عبر مسيرته الدولية وصلاته الكروية

فيرناندو مورينتس.. المهاجم الإسباني المخضرم حمل قميص مارسيليا موسم 2009 بعد أن لعب مع باريس لفترة قصيرة

ومع ذلك، يظل انتقال اللاعبين بين الناديين نادرًا بسبب الحساسية الجماهيرية، حيث يتعرض اللاعب القادم من الطرف الآخر لهجوم وانتقادات عنيفة قد تصل لحد الكراهية

أبرز النتائج التاريخية

شهد كلاسيكو فرنسا نتائج مثيرة عبر العقود، بعضها بقي محفورًا في ذاكرة الجماهير:

1993 مارسيليا 3-1 باريس سان جيرمان.. واحدة من أشهر المباريات التي جاءت في موسم تاريخي لمارسيليا تُوج فيه بلقب دوري الأبطال

2000 باريس 7-2 مارسيليا.. مباراة وُصفت بالمهزلة الكروية للجنوب الفرنسي، حيث سحق الباريسيون غريمهم التقليدي بسباعية

2006 مارسيليا 1-0 باريس.. انتصار رمزي مهم للجنوب، أعاد بعض الكبرياء أمام هيمنة الباريسيين

2017 مارسيليا 2-2 باريس.. مباراة كلاسيكية شهدت هدفاً قاتلًا من إدينسون كافاني في الدقيقة الأخيرة أشعل الأجواء وأعاد فريق العاصمة لنقطة التعادل

2020 مارسيليا 1-0 باريس.. مواجهة مثيرة شهدت 5 حالات طرد “3 لباريس و2 لمارسيليا”، وانتهت بفوز أبناء الجنوب لأول مرة منذ عام 2011

هذه النتائج تعكس الطبيعة النارية للمواجهات التي غالبًا ما تخرج عن إطارها الرياضي، لتتحول إلى صراع جماهيري محتدم

تطور الهيمنة الباريسية

مع دخول الاستثمارات القطرية عام 2011، تغير ميزان القوى بشكل واضح، فبعدما كان الصراع متوازنًا في التسعينيات وبداية الألفية، أصبحت الغلبة شبه مطلقة لباريس سان جيرمان بفضل صفقاته الكبرى التي جلبت نجومًا عالميين مثل زلاتان إبراهيموفيتش ونيمار جونيور وليونيل ميسي وكيليان مبابي

ومع ذلك، لا تزال جماهير مارسيليا تعتبر فوزها في الكلاسيكو “بطولة بحد ذاتها”، حتى لو كانت المنافسة على اللقب بعيدة، فالمباراة تمثل بالنسبة لهم معركة شرف وهوية، أكثر من مجرد نقاط في جدول الدوري

البعد الجماهيري والسياسي

يمتد العداء إلى المدرجات حيث تشهد المباريات إجراءات أمنية مشددة، كثيرًا ما تُمنع جماهير الفريق الضيف من حضور اللقاء، بسبب مخاوف من الاشتباكات التي اعتاد أن ترافق الكلاسيكو

سياسيًا، يُنظر إلى مارسيليا على أنها مدينة متمردة على “هيمنة العاصمة”، وهو ما يجعل الفوز على باريس سان جيرمان رمزًا لانتصار الجنوب على الشمال

أخيرًا، كلاسيكو فرنسا بين باريس سان جيرمان وأولمبيك مارسيليا ليس مجرد مواجهة رياضية، بل هو انعكاس لصراع طويل بين المال والهوية، السلطة والشعب، الشمال والجنوب، وبينما يسيطر البي اس جي على الألقاب والبطولات في العقد الأخير، يبقى لفريق الجنوب مكانة خاصة باعتباره النادي الفرنسي الأول الذي رفع كأس دوري أبطال أوروبا

ولذلك، ستظل هذه القمة الكروية محط أنظار الملايين حول العالم، وموعدًا لا يقبل المساومة في تقويم كرة القدم الفرنسية