في الاحتفال بيومها العالمي مفتي الجمهورية يؤكد أن اللغة العربية معجزة إلهية خالدة
.
أكد أ.د. نظير محمد عيَّاد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة تواصل بل هي معجزة إلهية خالدة ووعاء حضاري فريد يجمع الأمة ويشكل هويتها الجامعة، مشيرًا إلى خصوصياتها الفريدة بين لغات العالم باعتبارها اللغة التي اختارها الله تعالى لكتابه الكريم، حيث تتعدد أسماء المسمى الواحد وتتسع دلالات المعنى، مما يتيح للكلمة الواحدة أبعادًا ثرية من التعبير، وأوضح أن العرب عند نقل رسالة الإسلام لم يحملوها على أسنة السيوف بل من خلال القيم السامية واللسان البليغ، فكان القرآن الكريم محتوى ومضمونًا والعربية أداة ووعاءً لنشر الدعوة، مما دفع شعوبًا كثيرة من مختلف الحضارات إلى اعتناق العربية اختيارًا ومحبة، وانتقلت من لغة لجنس العرب إلى لسان فصيح عالمي.
وأضاف أن نزول القرآن الكريم بالعربية عزز مكانتها وثبت دعائمها وسمت معانيها وارتقى بأساليبها، لتظل لغة الأدب والعلم والكتابة إلى يومنا هذا، مع حفاظ القرآن الكريم عليها من الذبول والاندثار كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
جاء ذلك خلال كلمته في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي نظمته جامعة الدول العربية بالتعاون مع مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، بحضور السفير خالد بن محمد المنزلاوي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، والدكتور عبد الله بن صالح الوشمي، الأمين العام لمجمع الملك سلمان للغة العربية، والدكتور محمود صدقي الهواري، الأمين العام المساعد لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والقمص تادرس دانيال، أستاذ اللغة العربية بالكلية الإكليريكية اللاهوتية، وعدد من الوزراء وسفراء وممثلي الدول العربية وأمناء الفتوى والباحثين بدار الإفتاء المصرية وعلماء الأزهر الشريف.
صرح المفتي بأن العربية كانت في أصلها لغة جزيرة ولسان بادية، فجاء القرآن فحولها إلى لغة عالمية تجاوزت الحدود واخترقت الأمصار، وأصبحت لغة علم وفلسفة وطب وفن وفلك وحكم، تجوب الحضر والبوادي، وتحمل مشعل الحضارة قرونًا طويلة، مضيفًا أن العربية كانت اللغة الحضارية الأولى في العالم، وأقدم اللغات الحية التي ما زالت تحتفظ بخصائصها في اللفظ والتركيب والصرف والنحو والأدب والخيال، ومع نزول القرآن أُلبست ثوب الإعجاز فازدادت خلودًا إلى خلود، مشيرًا إلى قول أمير الشعراء أحمد شوقي: إن الذي ملأ اللغات محاسنًا جعل الجمال وسره في الضاد.
وأشار فضيلة مفتي الجمهورية إلى أن اللغة العربية اليوم تواجه تحديات جديدة في الفضاء الرقمي والتقنيات الحديثة، حيث أصبحت مقاييس اللغات مرتبطة بحضورها في المعرفة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وصناعة المحتوى والترجمة الآلية وقواعد البيانات، مؤكدًا أن العربية، بما تمتلكه من ثراء صرفي ودقة دلالية ومرونة اشتقاقية، مؤهلة لتصبح لغة علم وتكنولوجيا بامتياز، شريطة توطينها رقميًا واستثمارها في البحث والتعليم والتخطيط اللغوي، وعدم تركها أسيرة للاستهلاك، بل جعلها أداة إنتاج معرفي فاعل في عالم يتشكل اليوم بلغة الخوارزميات بقدر ما يتشكل بلغة الإنسان.
شدد على أن العربية ليست مجرد تراث ثقافي يحتفى به في المناسبات، بل رابطة وحدوية جامعة وأحد أعمدة الأمن الثقافي العربي، فكل تراجع في مكانتها ينعكس مباشرة على تراجع الوعي المشترك وتصدع الهوية واضطراب منظومة القيم، وأن الحفاظ على العربية الفصحى ليس ترفًا فكريًا ولا حنينًا إلى الماضي، بل ضرورة حضارية لصيانة الذاكرة الجماعية وضمان التواصل بين أجيال الأمة وربط حاضرها بماضيها، وتمكينها من صناعة مستقبلها بلسان واحد جامع يسع الاختلاف ولا يمزق الوحدة.
أضاف مفتي الجمهورية في هذا الإطار أن التاريخ حفظ شواهد جلية على أن استهداف اللغة كان ولا يزال مدخلًا مباشرًا لاستهداف الأمة، مقابل مواقف مشرفة لرجال أدركوا أن حماية اللغة هي حماية للوجود، فنهضوا بها تعليمًا وتشريعًا وتدريسًا، مثمنًا الدور الرائد الذي تضطلع به المؤسسات الدينية مثل دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وجامعة الأزهر، التي تسعى لصون العربية الفصحى نطقًا وخطًا، وترفدها تأليفًا وبحثًا، وتجتهد في تعليمها للعرب والعجم على السواء.
صرح بأن الحفاظ على اللغة العربية اليوم لم يعد مسؤولية دولة بعينها أو مؤسسة واحدة، بل واجب جماعي تتكامل فيه أدوار العلماء والمربين والإعلاميين والدعاة وأساتذة الجامعات وصناع القرار.
طرح فضيلة المفتي عددًا من المسارات العملية للنهوض باللغة العربية، ذكر في مقدمتها تعميق صلة الناشئة بالقرآن الكريم، وحفظ النصوص الفصيحة نثرًا وشعرًا، لما لذلك من أثر مباشر في تقويم اللسان وبناء الملكة اللغوية والذائقة البيانية الجمالية، مشددًا على ضرورة اعتماد العربية لغة لتدريس العلوم والمعارف، باعتبارها لغة قادرة على الاستيعاب والإبداع، وقد أثبت التاريخ أنها الرافعة الحضارية الأبرز لعلوم الأمم وفلسفاتها، وأكد في الوقت ذاته مسؤولية الخطباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات في الالتزام بالفصحى أداءً وسلامة، والاستفادة من الوسائط السمعية الحديثة لترسيخ النطق السليم، انطلاقًا من أن السماع أصل في التعلم وسبيل إلى الإتقان، مثمنًا المساعي والأدوار التي تؤديها مجامع اللغة العربية مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع الملك سلمان للغة العربية ومجمع اللغة العربية بدمشق.
في ختام كلمته، أكد المفتي أن اللغة العربية كائن حي، تعيش من خلال ألسنتنا ما دامت رطبة بذكرها، وتتنفس من إعمال عقولنا في أسرارها، وتزدهر بقدر ما نحسن رعايتها والعناية بها، محذرًا من أن النظر إليها بغير هذا الاعتبار يمثل تفريطًا في أمانة وتخليًا عن مسؤولية وخيانة لرسالة، داعيًا الله تعالى أن يجندنا جميعًا نحن أبناء الضاد حرَّاسًا لهذه اللغة الشريفة، وأن يوفقنا للقيام بحقها، لتبقى العربية ما بقي القرآن عزيزة قوية، شاهدة على حضارة أمة ورسالة دين.

