في عيد الميلاد، تتجلى معاني الكلمات بوضوح من غبطة البطريرك الأنبا إبراهيم إسحق، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، الذي يرى في رسالته الكهنوتية دعوة دائمة للمحبة والسلام.
وُلِد الأنبا إبراهيم في 19 أغسطس 1955 بقرية بني شقير بأسيوط، وبدأ مسيرته في الخدمة والدراسة منذ صغره، حيث حصل على الدكتوراه في اللاهوت العقائدي من الجامعة البابوية الغريغورية بروما. عاد إلى مصر ليخدم في مناصب رعوية وتعليمية عدة، قبل أن يُسيّم مطراناً لإيبارشية المنيا عام 2002، ويُنتخب بطريركاً للأقباط الكاثوليك في يناير 2013، ليكون صوتاً للكنيسة الكاثوليكية القبطية في مصر وعلى الساحة الدولية.
أجرت «الوطن» حواراً مع الأنبا إبراهيم إسحق بمناسبة عيد الميلاد المجيد، تميز بالبساطة والصراحة، واستمر لأكثر من 60 دقيقة، تناولنا فيه قضايا رعوية واجتماعية، والعلاقة بين الكنائس، بالإضافة إلى العلاقات المسكونية وأبرز المستجدات على الساحة المصرية والعالمية، ورؤية غبطته للعلاقة مع الدولة ومؤسساتها، وما تحمله من تطلعات نحو مستقبل يسوده السلام والتعاون والمحبة.
مرحلة ما بعد الإخوان شكّلت تحولاً واضحاً في علاقة الدولة بالكنيسة والمصريون تعلموا من تجربة الإخوان كيف يختارون مستقبلهم
.
كيف ترى الكنيسة تطور العلاقة مع الدولة خلال السنوات الأخيرة؟ وهل انعكس هذا التطور على المجتمع المصري بشكل عام؟
– العلاقة بين الدولة والكنيسة شهدت تحولاً واضحاً بعد سقوط حكم الإخوان، ويجب أن نرى الأمر في إطار المسيرة السياسية الطبيعية لحياة الشعوب، التي تمر دائماً بصعود وهبوط. الفترة التي حكم فيها الإخوان كانت تجربة مهمة للمصريين، لأنها ساعدتهم على فهم ما يريدونه وما يجب أن يختاروه أو يبتعدوا عنه، ومن يمكنه أن يخدم مصلحة الوطن بحق.
بعد هذه المرحلة بدأت مسيرة جديدة وما زالت مستمرة، شهدت خلالها مصر تقدماً كبيراً على مستويات متعددة. صحيح أن هناك تحديات وصعوبات، وهذا طبيعي في أي دولة، لكن المهم هو أن الجميع أصبح أكثر وعياً بدوره ومسئوليته تجاه التغيير، سواء داخل البيت أو في العمل أو في الشارع. التغيرات ليست مجرد أحداث سياسية، بل دروس ساعدت المجتمع على اكتساب خبرة أوضح، وفهم أعمق لمستقبله، وهو ما ينعكس اليوم على العلاقة بين الكنيسة والدولة.
تخصيص كنيسة لكل طائفة في المدن الجديدة يعكس رؤية الدولة المصرية في التعامل الصحيح والمتوازن مع المواطنين المسيحيين
كيف ترى الكنيسة خطوات الدولة لتقنين الكنائس الجديدة وتخصيص أماكن للعبادة في المدن الجديدة؟
– هناك عنصران مهمان في موضوع بناء الكنائس، أولاً عملية تقنين الكنائس التي تم إنشاؤها دون تراخيص رسمية، بحيث تصبح رسمية ومقننة ويتم نشرها في الجريدة الرسمية. تم إنجاز عدد كبير منها بالفعل، وما زال هناك عدد من الكنائس في الطريق إلى تقنين أوضاعها. ثانياً، هناك رؤية جديدة في تخطيط المدن الجديدة، بحيث يُخصص لكل طائفة كنيسة واحدة، وهي خطوة مهمة جداً تعكس احترام وجود المسيحيين في مصر كجزء أصيل من هذا المجتمع.
كيف تنظر الكنيسة إلى قضية تجديد الخطاب الديني؟ وهل ترى أن الخطاب الحالي يحتاج إلى تطوير في الشكل أو الفكر؟
– بالتأكيد الخطاب الديني يحتاج دائماً إلى تجديد، ليس فقط في اللغة المستخدمة بل في الفكر نفسه. التجديد الحقيقي يبدأ من السؤال: كيف ننظر إلى الآخر المختلف؟ هل نقبل أن نعيش معاً رغم اختلافاتنا؟ إذا تغيّر الفكر تجاه الآخر واحترامه، ستتغير معه اللغة وطريقة التعامل
هناك جهود واضحة لتجديد الخطاب والانفتاح على الآخر، مثل اللقاء الذي نظمته لجنة العدالة والسلام بمناسبة مرور ستين عاماً على وثيقة «في عصرنا»، والتي تناولت علاقة الكنيسة مع غير المسيحيين. هناك أيضاً وثيقة «الأخوّة الإنسانية»، الموقعة بين قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، التي تُرسّخ قيم السلام والاحترام المتبادل.
كيف تقيّمون واقع التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر؟
- الحقيقة أننا كمصريين نعيش معاً منذ زمن طويل. المسألة ليست في حاجة إلى تنظير معقد. المهم ليس الكلام الذي نكتبه، بل ما نقوله لأولادنا داخل البيوت: كيف نصف لهم جارنا المسلم أو المسيحي؟ التعايش الحقيقي يبدأ من البيت، من التعامل الإنساني اليومي، ومن احترام كرامة الآخر
-
الأنبا إبراهيم إسحق لـ«الوطن»: مبادرات «بيت العائلة» واللقاءات المشتركة مساحات حقيقية لبناء جسور الود وتعزيز ثقافة التعايش
هل لدى الكنيسة مبادرات مشتركة لتعزيز ثقافة المواطنة والحوار بين المسلمين والمسيحيين؟
– بالطبع هناك مبادرات تعمل باستمرار على تعزيز ثقافة المواطنة والحوار، مثل مبادرة «بيت العائلة»، واللقاءات المشتركة في المناسبات والأعياد. هذه ليست مجرد بروتوكولات اجتماعية، بل مساحات للود والتواصل الإنساني، حيث كانت هناك مشروعات مشتركة مع مشايخ ورجال دين لخدمة المجتمع.
كيف ترون مسار المواطنة في مصر اليوم؟
– أرى أننا قطعنا خطوات كبيرة إلى الأمام في طريق المواطنة، لكن الطريق ما زال يحتاج إلى جهد. لا تزال بعض الأفكار المسبقة تؤثر على نظرتنا لبعضنا البعض، والتحدي اليوم فكري وإنساني، وهو كيف نعيش إنسانيتنا وإيماننا بشكل يعمّق المحبة.
في ضوء الجهود المصرية الأخيرة لتثبيت الهدنة في غزة، كيف ترى دور الدولة في دعم مسار السلام الإقليمي؟
– مصر بلد كبير وله دور عالمي في كل المجالات، والقيادة المصرية لها رؤية واضحة ومواقف محددة. مصر لم تعمل بمفردها، بل من خلال علاقاتها الدولية، وهذا جعل لمصر تأثيراً كبيراً في دعم الدول والمواقف الإقليمية. قمة شرم الشيخ عبرت عن الدور الريادي للدولة المصرية في توحيد الجهود الدولية من أجل إحلال السلام.
كيف ترى الاحتفال بافتتاح المتحف الكبير؟
– أرى أن الاحتفال كان تتويجاً للعمل الطويل، ويعكس الجهد الكبير الذي تم بذله. المتحف الكبير يضم تراثاً مصرياً أصيلاً، وشارك فيه جميع المصريين مشاعر الفرح دون فرق بين مسيحي أو مسلم، فكلنا مصريون.
ماذا يعني الاحتفال بعيد الميلاد للمسيحيين؟ وما رسالة الميلاد التي تود توجيهها للعالم؟
– عيد الميلاد عيد مهم جداً، له رسالة روحية تؤكد أن الله قريب من الإنسان، ويجدد رجاءه وأمله. رسالة الميلاد تدعو إلى المحبة والسلام، وتؤكد أن العيد ليس مظاهر، بل تجسيد للفرح الحقيقي في استقبال طفل المغارة في قلوبنا.

شهدنا العديد من الجهود الاجتماعية للكنيسة.. هل يمكن تسليط الضوء على البعد الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية في مواجهة الأزمات الاقتصادية؟
– الإيمان لا ينفصل عن الحياة اليومية، ويظهر في احترام الآخر وكرامته. الكنيسة تعيش هذا الإيمان من خلال مؤسساتها الاجتماعية، مثل المدارس والمستشفيات، حيث تهتم بتنشئة الطفل والشاب ليصبح إنساناً صالحاً ومحباً لوطنه.
كيف تواجه الكنيسة التحديات الفكرية التي يطرحها الانفتاح التكنولوجي وانتشار الأفكار الغربية بين الشباب؟
– التكنولوجيا قربت العالم، لكن مسئولية مواجهة هذه الأفكار تبدأ بالأسرة، حيث يعلّم الأهل أولادهم القيم الصحيحة. على مستوى الكنيسة، هناك منهج واضح لمواجهة التحديات، من خلال تنظيم ندوات ومؤتمرات صيفية لتعزيز التفكير والنقاش.
تقنين الكنائس خطوة تعزز احترام الدولة للمجتمع المسيحي وتكرّس حقوق المواطنة
كيف تتعامل الكنيسة مع التطور التكنولوجي السريع، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي؟
– التقدم التكنولوجي ليس نهاية العالم، والمهم أن يُستخدم لخدمة الإنسان. الكنيسة تشجع على استثمار هذه المعارف بما يعود بالنفع على المجتمع، ونؤكد أن التعلم المستمر جزء من النمو الإنساني والروحي.
كيف تنظر الكنيسة إلى دور المرأة اليوم؟ وما الرسالة التي توجهونها للأسرة المسيحية في مواجهة التحديات المعاصرة؟
– الكنيسة ترى المرأة مكوناً أساسياً في الأسرة، ويجب أن يُحفظ الاحترام المتبادل بين الزوجين. التوازن والتكامل بين الرجل والمرأة هما أساس نمو الأسرة.
ما الجهود التي تبذلها الكنيسة لتكوين الشباب المقبل على الزواج؟
– الكنيسة تقدم دورات إعداد المقبلين على الزواج، لتجهيز الشباب لفهم مسئوليات الحياة الأسرية بشكل متكامل، وتعزز الحوار بين الزوجين.
ما آخر تطورات الحوار بين الكنائس، خاصة بين الكاثوليكية والأرثوذكسية؟
– جهود الحوار والوحدة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى تمتد إلى مستويات عدة. الوحدة لا تعني أن نكون نسخة واحدة، بل أن نقبل التنوع والاختلاف بما لا يمس جوهر الحياة والإيمان.

