في مدينة جنوى، حيث تلتقي الأزقة الضيقة مع تاريخ الموانئ العريق، تُعتبر كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، إنها شغف وهوية وولاء لا يتزعزع، وفي قلب المدينة، يشهد أحد أقدم ديربيات الكرة الإيطالية اشتعالاً، ديربي ديلا لانترنا .. نيران لا تنطفئ في جنوى.

من نفس التصنيف: النسر الأخضر هلالي وأوسيمين يقترب من الدوري السعودي
ليلة الديربي في جنوى ليست كأي ليلة أخرى، المدينة التي تتربع على ضفاف البحر الليغوري تتحول إلى ساحة صراع مفتوحة، تنبض بالتوتر، وتضج بالألوان، حيث تتجاوز المشاعر حدود كرة القدم، فلا تُحسم المعارك بالكؤوس أو المراكز، بل بالكرامة والانتماء وذاكرة الشوارع.
هنا، لا يُكتفى بالفوز، بل يُحتفل بالهيمنة، وتُدون النتائج على جدران المدينة، وتتردد عبر الأجيال، جنوى وسامبدوريا، فريقان لا يقتسمان ملعبًا واحدًا فحسب، بل يتنازعان على روح مدينة كاملة، في كل صافرة بداية، تنفجر سنوات من العداء، وتستعاد ملاحم صنعت مجد الغريمين أو أسقطتهما في قاع الذل.
في ديربي ديلا لانترنا، لا يوجد “صغير” ولا “كبير”، فكل شيء يُمحى أمام جنون 90 دقيقة، هنا، المعركة ليست فقط على العشب الأخضر، بل في المدرجات، وفي الوجدان، بين قلوب نصفها “روسوبولو” ونصفها الآخر “بلوسيرتشياتي”.
بداية الصراع .. حين يصطدم التاريخ بالحداثة.
نشأ العداء بين الفريقين على خلفية طبقية وتاريخية واضحة، جنوى، الذي تأسس عام 1893 كأول نادٍ كروي في إيطاليا، لطالما اعتبر نفسه ممثل الطبقة الأرستقراطية ذات الهوية البريطانية في المدينة، على النقيض، وُلد سامبدوريا عام 1946 من اندماج ناديي أندريا دوريا وسامبيردارينيزي، كرمز للحداثة والنهوض بعد الحرب وتمرد أبناء الطبقة العاملة.
منذ اللحظة الأولى، لم يكن هذا الديربي مجرد لقاء رياضي، بل معركة رمزية بين ماضٍ ذو جذور قديمة ومستقبل يسعى لفرض نفسه، العداء بين الجماهير لم يعرف هدنة، ومع كل مباراة، تتجدد العاطفة وتشتعل الذكريات.
أشهر لحظات الديربي .. انتصارات لا تُنسى وخيبات لا تُغتفر.
ديربي تتويج البلوسيرتشياتي بالاسكوديتو عام 1991 يبقى محفورًا في ذاكرة جماهير سامبدوريا، عندما قاد الثنائي روبرتو مانشيني وجيانلوكا فيالي فريقهما لفوز تاريخي بثلاثية نظيفة، في موسم تُوّج خلاله الأزرق والأبيض بأول لقب دوري في تاريخه، كان ذلك الانتصار تجسيدًا لتحول موازين القوى في المدينة.
ديربي ميليتو 2009، نجح جنوى بعد عقدين من الزمن في رد الاعتبار بهدف قاتل عن طريق الدولي الأرجنتيني دييجو ميليتو عند الدقيقة 97، في لحظة انفجرت فيها مدرجات “لويجي فيراريس” وتحولت إلى عاصفة من الانفجار والدموع.
معركة متوازنة في المدرجات
المدرجات دائمًا ما تكون ساحة معركة موازية لما يحدث داخل المستطيل الأخضر، حيث تتنافس “الكورفات” في رفع اللافتات الساخرة، لعل أبرزها كانت من جماهير سامبدوريا: “وُلدنا لنقهر الكبار”، في حين ردت جماهير الغريم جنوى: “أنتم ضيوف في مدينتنا، نحن الأصل”
لغة الأرقام .. توازن بطعم المرارة.
منذ أول ديربي جمع الفريقين بعد تأسيس سامبدوريا في عام 1946، التقى الغريمان في أكثر من 100 مباراة رسمية، تشير الأرقام إلى تفوق نسبي للبلوسيرتشياتي من حيث عدد الانتصارات، خاصة في العقود الأخيرة، بينما حافظ جنوى على حضور قوي في فترات متباعدة.
أكبر فوز لسامبدوريا جاء في موسم 1991 أو كما يُعرف بموسم الاسكوديتو، وانتهى بثلاثية بيضاء، بينما أكبر فوز لجنوى، وتكرر أكثر من مرة، كان بنتيجة ثلاثة أهداف مقابل هدف واحد، بينما جاءت نتيجة التعادل الإيجابي بهدف لمثله كأكثر النتائج تكرارًا في ديربي ديلا لانترنا، كما نصّب الهداف الأرجنتيني لجنوى “دييجو ميليتو” نفسه هدافًا تاريخيًا للديربي.
نجوم صنعوا التاريخ
من جانب سامبدوريا، هناك إسمان لامعان، أولهما روبرتو مانشيني “روح الفريق التاريخي وصاحب أهداف حاسمة في الديربي”، أما الثاني فهو شريكه الذهبي، جيانلوكا فيالي “قائد الهجوم التاريخي، سجّل في أكثر من مناسبة، وحفر اسمه في قلوب الجماهير”.
على الجانب الآخر في جنوى، دييجو ميليتو لا يُنسى، هداف أرجنتيني خطف الأضواء في ديربيات مطلع القرن الجديد، أما الاسم الثاني والأكثر وفاءً للروسوبولو، هو دومينيكو كريشيتو، القائد الوفي، لعب الديربيات بروح قتالية مثالية، وكان كابيتانو حقيقيًا.
مواضيع مشابهة: عروض استضافة بطولة كأس السوبر المصري من السعودية والكويت
العبور بين الضفتين .. “الخيانة” في نظر الجماهير
رغم الحساسية الشديدة للديربي، إلا أن بعض اللاعبين ارتدوا قميص الفريقين، وهو أمر نادر في ظل المناخ العدائي بين الغريمين، ولعل أبرزهم، كريستيان بوكي، مهاجم تنقل بين الفريقين دون ترك بصمة مؤثرة، والإيطالي فابيو بوريني، الذي لعب لسامبدوريا ثم انتقل لاحقًا إلى جنوى في مسيرة أثارت الجدل.
ديربي لا يموت مهما كان وضع الغريمين
يظل “ديربي ديلا لانترنا” موعدًا يتجاوز المستطيل الأخضر، في مدينة تتنفس كرة القدم، هو اشتباك للذاكرة وهوية وثقافة، لا يُقاس هذا الديربي بعدد النقاط أو ترتيب الجدول، بل بوقعه في النفوس وتأثيره على وجدان الجماهير، سواء انتهت المباراة بفائز أو تعادل، فإن جنوى تظل دائمًا مدينة منقسمة بين قلبين، لا يجتمعان ولا يتوقفان عن الخفقان.