في مثل هذا اليوم من عام 2011، أعلن جنوب السودان استقلاله رسميًا عن السودان، ليصبح أحدث دولة في القارة الإفريقية والعالم، وقد كانت هذه اللحظة تتويجًا لمسار طويل من الصراعات والحروب التي أنهكت الطرفين لعقود، وانتهت باتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005، تلاها استفتاء شعبي تاريخي في يناير 2011، حيث صوّت أكثر من 98% من الجنوبيين لصالح الانفصال.

اقرأ كمان: إسرائيل تكشف عن أقوى خمس مقاتلات حسمت معركة إيران من باراك إلى الرعد
ومع إعلان النتائج، علت الزغاريد في شوارع جوبا، ورفرفت الأعلام الجديدة، بينما تابع العالم ميلاد الدولة رقم 193 في الأمم المتحدة، وسط آمال محلية ودولية بأن يكون الاستقلال بداية لحقبة جديدة من السلام والتنمية وطي صفحات الدماء.
استفتاء الانفصال.. نتائج محسومة وضغوط دولية
في تصريحات خاصة لموقع «نيوز رووم»، أكد كريم درويش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، أن استفتاء يناير 2011 جرى تحت رقابة دولية مكثفة وإشراف إعلامي واسع، إلا أن نتيجته كانت معروفة سلفًا، ليس فقط بسبب تركة الصراعات، بل نتيجة ما عانى منه شعب السودان من تهميش سياسي واقتصادي طويل تحت حكم الخرطوم.
وأظهرت تقارير لاحقة أن هناك ضغوطًا خارجية وإقليمية مورست خلف الكواليس، لا سيما من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، لتوجيه نتائج الاستفتاء نحو الانفصال، تحت شعار “حق تقرير المصير”، ولم تكن تلك الجهود محصورة في الدبلوماسية، إذ لعبت منظمات دينية ودولية دورًا فاعلًا في تهيئة المزاج الشعبي الجنوبي للتصويت بـ”نعم”.
جنوب السودان بعد الاستقلال.. آمال لم تتحقق
لكن بعد مرور 13 عامًا، لم يتحقق الكثير مما وعدت به القيادة الجديدة، فبدلاً من بناء دولة مستقرة، دخل جنوب السودان في حرب أهلية شرسة بين أطراف الحكم عام 2013، استمرت حتى 2018، وأودت بحياة مئات الآلاف، وتسببت في تشريد الملايين داخليًا وخارجيًا.
ورغم محاولات توقيع اتفاقيات سلام، لا تزال البلاد تعاني من انقسامات قبلية وسياسية حادة، ويواجه الاقتصاد أزمات عميقة، أبرزها الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وسط توترات دائمة مع السودان الذي تمر عبره أنابيب التصدير نحو ميناء بورتسودان.
تدهور البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، ومعدلات المجاعة المرتفعة، كلها ملامح لما آلت إليه الأمور، بحسب تقارير أممية.
السودان بعد الانفصال.. فقدان الثروة وزيادة التوتر
في المقابل، تلقى السودان الشمالي ضربة موجعة بفقدان أكثر من 75% من إنتاجه النفطي لصالح الدولة الجديدة، وهو ما تسبب في تدهور اقتصادي تدريجي، تلاه اضطراب سياسي متواصل، وصولاً إلى صراع دموي محتدم بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ عام 2023.
لم يكن الانفصال مجرد تقسيم جغرافي، بل كان ضربة عميقة لتوازنات داخلية معقدة، لم تنجح الحكومات المتعاقبة في التعامل معها، سواء على مستوى بناء دستور دائم، أو تحقيق توافق وطني، أو تحسين الظروف المعيشية.
علاقات متذبذبة ومصالح متشابكة
شهدت العلاقة بين جوبا والخرطوم حالات من المد والجزر، فتارة تُوقّع اتفاقيات أمنية واقتصادية لتنظيم تصدير النفط وفتح المعابر الحدودية، وتارة أخرى تتصاعد الخلافات حول مناطق متنازع عليها مثل أبيي، واتهامات متبادلة بدعم جماعات مسلحة.
ورغم محاولات التهدئة، فإن غياب الثقة، وتدهور الأوضاع الأمنية في البلدين، جعلا من التعاون مسألة مؤقتة وهشة، يُفرض أحيانًا بحكم الضرورة وليس القناعة.
اقرأ كمان: أجسام مضيئة تثير قلق الكويتيين والسلطات تؤكد أنها خارج مجالنا الجوي ولا تشكل تهديداً
الانفصال.. ضرورة أم مأساة؟
في كل عام، تعيد ذكرى الاستقلال طرح السؤال الأصعب: هل كان الانفصال حلاً حتميًا لواقع متأزم؟ أم أنه كان نتاجًا لحسابات سياسية إقليمية ودولية قُدّمت فيها مصالح القوى الكبرى على آمال الشعوب؟
يرى مراقبون أن الدولتين لم تجنيا سوى المزيد من المعاناة، حيث تفجرت نزاعات داخلية جديدة، وتراجعت المؤشرات التنموية بشكل مقلق في الجانبين، فلا سلام تحقق، ولا استقرار ترسخ، بل ازدادت الأوضاع تعقيدًا.
الطريق نحو الاستقرار لا يزال طويلًا
وتأتي ذكرى الاستقلال هذا العام والسودان يعيش أتون حرب مدمرة، بينما يحارب الجنوب للبقاء وسط مجاعة وصراعات كامنة، ويبدو أن تجربة الانفصال أثبتت أن بناء الدول لا يتم بمجرد تغيير الخرائط أو رفع الأعلام، بل بتوفير أسس الحكم الرشيد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء مؤسسات قوية قادرة على توجيه مقدرات الشعوب نحو مستقبل أفضل.