في حياة السيدة فيروز، تلك الأسطورة التي أسر صوتها أرواح الملايين، لم يكن الفن المعركة الوحيدة التي خاضتها، بل كانت الأمومة ميدانًا آخر من التفرّد، حيث جسّدت بصبرها وعاطفتها نموذجًا نادرًا للمرأة التي تُغنّي للحب على المسرح، وتعيشه بصمت في أروقة البيت، واليوم، وبعد رحيل ابنها البكر عن عمر ناهز 69 عامًا، تتلقى فيروز واحدة من أقسى الضربات الإنسانية التي قد تواجهها أي أم، فرغم أنها لطالما عرفت كيف تصعد إلى المسرح وسط الألم، فإن رحيل زياد يمثّل فقدانًا ليس فقط لابن، بل لرفيق مسيرة، وشريك حياة فنية وعاطفية، ظل لسنوات طويلة جزءًا من نسيجها الشخصي والموسيقي.

شوف كمان: هاجر الشرنوبي تكشف عن تجربتها في بيع الآيس كريم بالساحل واختبائها من معارفها
أمومة خلف الأضواء: فيروز و”هلي”
رغم صيتها العالمي، حافظت فيروز على خصوصية حياتها العائلية، متجنبة الضوء، خاصة فيما يتعلق بابنها الأصغر “هلي”، الذي وُلد عام 1955، وتعرض في سن الثالثة لمرض السحايا، ما أثر على قدراته الذهنية والبدنية بشكل دائم، وعلى مدى أكثر من ستة عقود، أخفت فيروز تفاصيل هذه العلاقة عن الجمهور، مكتفية بدورها كفنانة، لكن في عام 2022، كسر الزمن صمته، عندما نشرت ابنتها ريما الرحباني صورة نادرة لفيروز تمسك يد هلي في لحظة مؤثرة داخل إحدى الكنائس، خلال إحياء ذكرى رحيل والده عاصي الرحباني، ظهر هلي جالسًا على كرسي متحرك، ووالدته إلى جواره تمسك بيده بحنان الأمومة الذي لا يشيخ، بينما وقف زياد خلفهما، وكأن الزمن جمّع العائلة في مشهد يحمل من الرمزية ما لا يمكن وصفه بالكلمات.
مواضيع مشابهة: كواليس طلاق إلهام عبد البديع والملحن وليد سامي بعد أسبوع من الحدث …خاص
رعاية الأم: تفاصيل حياة لا يراها أحد
لم تمنع النجومية ولا مرور السنين فيروز من أن تظل الأم التي ترعى، وترافق، وتغسل، وتطهو، وتتابع أدق التفاصيل الطبية والمعيشية لهلي، دون أن تبوح بذلك يومًا أو تطلب تقديرًا، لم يكن المرض حاجزًا، بل كان دافعًا لتكريس شكل آخر من الحب، حيث تحولت الأمومة إلى فعل يومي من العطاء الصامت، هذه العناية المستمرة، حتى في سنّ متقدمة، عكست إيمان فيروز العميق بأن الفن لا يُغني عن دورها كأم، وأن الأضواء لا تبرر الغياب عن مسؤوليةٍ زرعتها في قلبها منذ لحظة الولادة.
أم تفقد نجلها الأكبر
مع وفاة زياد الرحباني، تغيب الروح الفنية التي فهمت فيروز بلا شرح، ولحّن لها بإحساس الابن والعبقري في آنٍ واحد، بدأ زياد مسيرته مع والدته في سن المراهقة، وكتب لها أغنيات أصبحت علامات في الموسيقى العربية مثل “كيفك إنت”، و”سألوني الناس”، و”عودك رنان”، وغيرها من الأعمال التي أعادت تقديم صوتها بروح أكثر حداثة، وأكثر صدقًا، كان زياد الرحباني أكثر من مجرد موسيقي لوالدته، كان امتدادًا لها على المسرح، في الفكر، وفي الرؤية، وفقدانه اليوم يترك فجوة في وجدانها الشخصي، وأيضًا في الإرث الفني الذي جمّله وجوده.
فيروز: نموذج للأم التي لم تُنسِها الشهرة إنسانيتها
ليس من السهل أن تجتمع الأسطورة الفنية والأم المتفرغة لرعاية ابنٍ مريض تحت سقف واحد، لكن فيروز جعلت منهما معادلة ممكنة، بل واقعية، لم تثر حولها صخبًا، لم تطلب اهتمامًا إعلاميًا، لكنها اختارت أن تُحب بصمت، وتمنح دون مقابل، وتتحمل دون شكوى، واليوم، حين تواجه رحيل زياد الرحباني، تعيش فيروز فصلاً من الفقد لا تشارك فيه جمهورها بالكلمات، بل بالصمت الذي لطالما كان جزءًا من هويتها، فيروز ليست فقط جارة القمر، بل أمًّا تشبه الأرض في صبرها، والسماء في عطائها، والنجوم في حضورها الصامت والدائم.